جاسم بودي: أكبر من عشاء

أعرف أن العادات والتقاليد والمواريث الاجتماعية لا تصحح ما تفسده السياسة خصوصاً في زمننا الحالي، لكنني متيقن من أن السياسة تفسد أحيانا العادات والتقاليد والمواريث الاجتماعية خصوصا في الكويت التي شهدت في السنتين الماضيتين مواسم تصعيد داخلي لم تشهدها على مر الزمان.
ومع ذلك، لابد من العودة إلى الخصوصية الكويتية والتوقف عند بعض المحطات المستلهمة من قيمنا الدينية والوطنية. فالفجور في الخصومة امر لا يقره شرع، و«خيركم من يبدأ بالسلام» من روائع العبارات الإنسانية الدالة على قدرة التحضر العظيمة التي ألقاها الله في ذواتنا. هي القوة التي تمكن المؤمن السوي من الارتقاء فوق التعصب والحقد وامتلاك الشجاعة المطلوبة للمبادرة ووصل ما انقطع.
نقول الشجاعة لا الخوف، والقوة لا الضعف، والتقدم لا التراجع، خصوصا اذا كنا ابناء بيت واحد تتفاوت داخله الرؤى وتتباين الآراء وتختلف وجهات النظر. أما اللجوء الى التصنيف فالتخوين فالصدام فالمقاطعة فهذا يحدث عندما تعتقد مجموعة معينة أنها وحدها الوطنية، فيما تعتقد مجموعة اخرى أنها وحدها الملتزمة بالدين والشرع والقيم والاخلاق، فيما تعتقد السلطة انها كامرأة القيصر فوق الأخطاء والشبهات. هذا الجنوح الكاسر نحو الفرز والتصنيف تصحبه محاولات عزل الآخرين مقرونة بضجيج الهتافات وحماسة الانصار… لكن كل من يحاول ان يعزل الآخرين في الكويت انما هو في الواقع يعزل نفسه أيضا ليكتشف متأخرا كم أضاع من وقت وكم أساء للبلد.
هذا الكلام ينطبق على الجميع بمستويات مختلفة، والكويتيون المسيّسون بالفطرة وبفضل الحريات العامة التي يعيشون فيها يدركون اليوم من هو المبالِغ ومن هو المتطرف ومن هو المخطئ ومن هو المتعصب ومن هو الغرائزي. يعرفون من يكيل بمكيالين ومن يضحك على جمهوره ومن يستغل منصبه وموقعه. يعرفون السياسي المبدئي النظيف الذي اوصله مستشارو السوء والغباء الى ما وصل اليه فأضاع البوصلة وصارت تصفية حسابات ضيقة أهم لديه من الهمّ الوطني العام. وأستطيع أن أجزم أن الكويتيين العاديين (او الغالبية الصامتة) هم أكثر شعوب الخليج وربما العالم العربي قدرة على الوقوف في الشرفة التي تطل على بلدهم، سياسة ومجتمعا واقتصادا وادارة، ورصد احداثها بدقة وسماع نبضها وتوقع المستجدات فيها… اللهم ما خلا اصحاب الاجندات الذين لا يسمعون إلا أصواتهم ولا يرون إلا ما يريدون ولا يعتبرون المؤسسات مؤسسات إلا إذا توافقت قراراتها مع مطالبهم.
نعود الى الأعراف والتقاليد والمواريث الاجتماعية، ونتوقف عند غداء الدويش وعشاء بن جامع لصاحب السمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد، فالدعوات عامة والأماكن عامة. امر لا يحدث الا في الكويت ومع ذلك جميل ان يحدث، خصوصا اذا عدنا الى مواقف بن جامع في الندوات العامة التي اقامتها المعارضة وهي مواقف تصعيدية ضد السلطة، كذلك اذا عدنا الى اشادات رموز المعارضة ببن جامع واعتبار صوته معهم بمثابة «عشرات آلاف الأصوات الانتخابية». نحن هنا لسنا في وارد تصنيف المواقف، نحن فقط نتحدث عن العودة الى عادات الكويت التي تكتسب فعلا قوة اجتماعية كبيرة تكون لها انعكاسات على مختلف المستويات ومن بينها المستوى السياسي… وها هم نواب سابقون معارضون يشيدون بالتلاقي والتواصل وفي الوقت نفسه يؤكدون انهم ثابتون على مواقفهم السياسية إنما خلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
آلاف المشاركين في هاتين المناسبتين كانوا جزءاً من هذه الظاهرة الحضارية التي اكرر انها لا تحدث الا في الكويت. صاحب السمو في موكبه العادي يصل الى مكان الدعوة فترمى على سيارته الورود. يصافح المئات والآلاف من دون مرافق الى جانبه، يشارك في «الفريسني» شابكا يده بأيادي أبناء القبيلة. يستمع اليهم ويخاطبهم… من دون أن تسجل حادثة واحدة ولو بسيطة أو كلمة نابية تعكر صفو المناسبة رغم ان الحضور كان بالآلاف.
التلاقي، التزاور، التواصل… كلها أمور تساهم في نقل المواقف من إطارها التصعيدي الى إطارها الحواري. لم تكن أبواب الكويت موصدة أمام الحوار ولم تكن الحياة السياسية خالية من المشاكل ولم تكن الإدارة منزهة عن الفساد، لكن اللغة الجديدة التي اعتمدها بعض من في السلطتين وفي المعارضة والموالاة لا تشبه الكويت في شيء، والأهم من ذلك كله أنها لم تؤد إلى أي حل بل ربما ساهمت في تفاقم الأزمة وحرفت الأنظار والجهود عن القضايا الاساسية المطروحة. بمعنى آخر، صارت المشكلة في اللغة وليس في القضية التي عبرت عنها اللغة، وهذا الأمر يستدعي قبل أي شيء آخر تصحيح المسار وإعادة المطالب الإصلاحية إلى سكتها الحقيقية ولغتها الحقيقية لان المسار الحالي لم يخدم هذه المطالب بل خدم أعداءها.
غداء الاحد الماضي وعشاء الاثنين… يشبهان الكويت التي نعرفها.
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.