صديقي الكريم الدكتور أسامة الجمالي من خبراء البترول العرب المؤهلين القلائل الذين يحق لهم الكلام في موضوع الطاقة، وهو أولى مني بالحديث عما يكمن للدول المنتجة للغاز والبترول من أخطار؛ ولكن صديقي خبير حباه الباري تعالى بنعمة فريدة حُرِمْتُ منها: السكوت حيث لا ينفع الكلام، وهو بطبيعته رجل يؤثر السلامة وراحة البال، وليس من هواياته الواسعة نصح السياسيين العرب في كيفية تهيئة شعوبهم لمواجهة المستقبل. أما كاتب هذه السطور فمتفائل تفاؤلا تمليه ما ينعم العرب به من نعم ورفاه، وهو ميال الى الثقة بفطنة النخبة المميزة التي تتولى السهر على مصالح الشعب، وما تتميز به من تجرد وتفان واخلاص، وهذا ما يشجعه على الكتابة والكلام.
كنت كتبت قبل هذا عن اكتشاف أميركا موارد للبترول من الصخور الجوفية، بما يسد حاجتها من الوقود لأربعة قرون، كما قدره بعضهم. وقيل إن الصين أيضا قد اكتشفت كميات مشابهة في حجمها لما اكتشف في اميركا. وأشرت أيضا الى ما تنطوي عليه هذه التطورات، لا في ذاتها فقط، بل لما يصحبها من تقدم علمي كان عاملا مهما في خفض كلفة استخراج البرميل الخام من هذه المصادر الجديدة، ولما سيلي هذا كله من سبل جديدة اخرى لخفض الكلفة مجددا، وهكذا دواليك.
وقد تواترت الأخبار مؤخرا أن التنقيب عن البترول والغاز من هذا المصدر الجديد يجري الآن في بريطانيا، وأن نتائج التنقيب قد تجاوزت التقديرات الأولية بمراحل، إذ تقدر شركة Igas، التي تعمل في منطقة «تشر» Cheshire، في شمالي بريطانيا، أن ما يكمن في المنطقة التي مُنِحَت امتياز استغلال مواردها سوف يكفي حاجات بريطانيا بأتمها لمدة تسع عشرة سنة! وحتى على افتراض المبالغة في تقديرات الشركة المذكورة، فهناك شركات أخرى غيرها تنقب في الجنوب، وهناك تنقيبات غير ما ذكرنا تجري حاليا في دول أخرى؛ والمهم، المهم الذي على مصدّري الطاقة الحاليين معرفته أن التنقيبات الجارية على قدم وساق، ستسفر عن ثورة في أسواق الطاقة، وأن السؤال الذي يجب ان يعنيهم (وخاصة الدول العربية وروسيا) هو: «ما هو وقع هذه التطورات عليهم؟}، وليس: «أحقا سيتحقق ما يتنبأ به المنقبون؟}، فوصول الوقود الجديد لأسواق العالم قريبا حقيقة لا يشك فيها الا جاهل أو أحمق!
❊❊❊
ثروة ناضبة أسعارها متدهورة
لست أدري كيف تنفق الدول الشقيقة المنتجة للبترول ما يردها من عائداته تفصيلا، ولكن ما أقرأه قراءة عابرة عن ذلك، لا يختلف عما أقرأه عن تصرفاتها في جوانب من الحياة الأخرى؛ وكيف يسعدني أن أقرأ في صحف العالم أن ما تنفقه احدى الدول العربية المصدرة للبترول يساوي عُشْرَ مجمل إنتاجها الوطني. G.D.P، في حين أن الولايات المتحدة الأميركية تنفق نحو %4 منه أو أكثر بقليل؟! ولكن دعنا من تصرفات الاخرين، ولنحصر الحديث على ما يجري اليوم في الكويت: هذا السرف غير المسؤول جريمة تُرْتكب على حساب أجيال لم تولد بعد، ثروة البترول ثروة محدودة لا تتجدد؛ هي ليست كاللؤلؤ يتنامى كل موسم؛ هي ثروة متى استخرجت من مخازنها في جوف الأرض تحولت الى نقد، وتناقص المخزون منها حتى ينضب. وليس نضوبه وحده مصدر القلق، بل تدهور أسعار الوقود عامة نتيجة تكاثر العرض في الأسواق هو هم آخر، يجب أن يشغل بال المسؤولين، وهذه كلها هموم كان يجب على خبراء التخطيط اعطاؤها مكانا محوريا في تخطيطهم؛ ولكن للجهل في هذه الدولة مكانا مرموقا، وله الحمد، فقد استقر العرف عملا على أن تمارس وزارة البترول العتيدة مسؤولياتها باستقلال سلّمت به السلطة التشريعية، كما أقرته الحكومة، وهو وضع اداري فريد ارتاح له وزراء البترول الذين تعاقبوا على كرسي هذه الوزارة منذ استقلت ادارة الغاز والبترول عن وزارة المالية من زمن سحيق.
هذه الثروة الوطنية، رأسمال الكويت الوحيد المتناقص، الذي تحول من وقود في جوف الأرض الى نقد على سطحها، يتسابق البرلمان الموقر والحكومة المحترمة معا على اهداره غير آبهين.
الصحة والتعليم فضيحتان خالدتان
بعد السرف المدهش الذي انهمكت فيه الدولة، أما آن لها أن تستيقظ، وأن تعيد النظر في طرق انفاقها؟ أما آن الكف عن هدر ثرائها غير المتجدد، واستثماره بطريقة تضمن استمرار الدخل العام في المستقبل؟ فبنى البلاد التحتية لا تختلف اختلافا كبيرا عما تجد في العالم الثالث ولا تفضله بكثير، والصناعات التي أقيمت في عصر البترول تافهة، بالقياس الى ما أقيم في كوريا الجنوبية أو حتى دول اميركا اللاتينية. أما التعليم والصحة، فهما مما يَحْرُمُ ذكرهما، لأنهما بدل أن يكونا مفخرة الكويت فهما الفضيحتان الخالدتان اللتان يتداول الناس ذكرهما ليل نهار. أما المليارات الطائلة التي تكبدها المواطن المسكين في الإنفاق عليهما، فمدعاة للعويل.
❊❊❊
تعليم ينتج عاطلين عن العمل
ثروة البترول ينبغي أن تخصص لشيئين اثنين لا ثالث لهما: أ – بناء بنية تحتية، محكمة، دائمة كما نرى في دول كألمانيا وسويسرا والسويد وما إليها. وب – عناية جادة بنوعية الجيل الجديد: صحته وتربيته وتعليمه، إعداداً له ليشق طريقه في معركة الحياة.
فانظر على ماذا أنفقت الكويت واردات البترول: مئات الألوف من السيارات، وقصور مرفوعة يعلن استهتار ساكنيها ما يزينها من أنوار الكهرباء التي تباع لهم بأرخص من كلفة إنتاجها، وآخر توافه الأزياء والعطور والمجوهرات، وتخمة زادت أمراض السكري حتى وصلت الإصابات به إلى أرقام قياسية، وتعليم جامعي هو مدعاة للهزء ينتج الألوف من العاطلين والعاطلات عاماً بعد عام ليضخموا أعداد من تنفق الدولة واردات البترول عليهم بغير حساب، وشعب متكل مسرف تطغى عليه الأنانية، وعبادة المال، ويحذق الناس فيه في كسب أرزاقهم بأقل جهد أو كلفة أو عناء! أجل أُنفقت واردات البترول على خلق مجتمع مستهلك، متكل زادت فيه الجريمة، وعم الطلاق، واستحكمت الأمراض، وبرز وساد ادعاء العلم، وانتشر الجهل المقنّع، واشتد الجشع، وعم الاحتيال! أين الكويت الفقيرة الكادحة التي لم تُعرف الجريمة فيها إلا لماماً، الكويت التي كان طلابها مفخرة كليات القاهرة وبغداد، الكويت التي كان يبحر أسطولها الشراعي إلى جاوة والملايو ليزاحم خطوط النقل البحري البريطانية العصرية؟ ترى ماذا سيكون رد الأجيال الكادحة المعتصمة بالكفاف والفضيلة والوقار على حماقات الجيل المترف المنعم الذي خلفهم؟
وماذا ينتظر الكويت، في أخريات العشرينات من هذا القرن؟ بعد عشر سنوات؟ هل سأل المخلصون أنفسهم هذا السؤال؟
طبقتان: غنية ومعدمة
«رؤيتي للمستقبل مروعة: سيتضاءل الدخل العام من البترول، وستعتمد الدولة لتمويل الإنفاق العام على الضرائب شيئاً فشيئاً، كما أنها ستفرض رسوماً على الكثير من الخدمات الاجتماعية التي تقدّمها بالمجان كالتعليم والخدمات الصحية، وستخفض خفضاً عظيماً الهبات والعلاوات والمساعدات، وستبدو استثمارات الدولة المالية الخارجية وما يرد الخزينة العامة منها ضئيلة تافهة، وستتقلص جيوش الموظفين الجرارة، وسينقسم المجتمع الكويتي إلى طبقتين: أقلية مفرطة الغنى، وأكثرية معدمة أو تعيش على الكفاف، وبنية سفلية تعبة، وشح في الخدم والبستانيين والمربيات… إلخ».
وأتنبأ أن يعود أبناء الشعب وبناته إلى ممارسة بعض الحرف التي يأنفون الآن منها، وأحسب أن تزوير الشهادات سينعدم، ولا أرى أن مستوى التعليم سيرتفع ارتفاعاً حقيقياً، وقد تتحول الجامعة إلى جامعة أهلية تعينها الدولة (على غرار ما هو مألوف في بلاد أخرى)، وسيضمحل سلطان نقابات العمال، وستكثر الجريمة، وتتدهور مستويات العناية بالسجون. أما قطاع الخدمات المالية، فلن يشهد توسعاً كبيراً، وأرجح الظن أن البنوك الإسلامية ستقاسي من وطأة هذه التغيرات، كما أن أرباح الشركات العاملة حالياً في هذا القطاع ستتقلص، وخاصة ما يدره العقار. أما الشركات الكبرى، فستحول جهودها إلى الخارج أكثر فأكثر.
❊❊❊
لا مخرج سهلاً
ومن فضول القول إن الكثيرين يشاركوني في رؤاي هذه، ولكنهم يتجنبون الخوض فيها أو يجنحون إلى تأجيل مواجهتها عسى ألا تتحقق، أو يحدث الله أمراً كان مفعولاً. أما أنا، فلي نظرة أخرى: الأمور في نظري وصلت إلى الحد الذي لا أرى منها مخرجاً سهلاً أو سريعاً، وكان من الحكمة أن تطلب الحكومة من المؤسسات الاستشارية المشهورة التي استأجرتها أن تستعين بها لمعرفة ما ينبغي عمله لمواجهة المستقبل، وعن مراحل الانتقال إلى هذا المستقبل، ولكن الحكومة ومستشاريها معها كانوا يفضلون تفادي مشكلات وآلام يرثها من يرث الأرض بعدهم، وليتدفق بعد ذلك الطوفان!
فخري شهاب
المصدر جريدة القبس
قم بكتابة اول تعليق