جاسم بودي: الصديق حمد

عرفت حمد بن جاسم سنة 1984. كان مديراً لمكتب عمه وزير البلديات آنذاك المرحوم الشيخ محمد بن جبر آل ثاني والتقيته للمرة الاولى في مبنى الوزارة الذي كان عبارة عن دور واحد مطل على البحر… لكن مدير المكتب كان خلية عمل لا تتوقف.
في تسعينيات القرن الماضي، توطدت علاقتي به بعدما أصبح وزيراً للخارجية ودخلت أنا المجال الاعلامي. بدأناها علاقة «مهنية» بحكم كونه أحد مصادر الجذب الاعلامي الرئيسية لجهة مواقفه غير التقليدية في منطقة الخليج خصوصا والمنطقة العربية عموما. وبما ان بدايات صحيفتنا كانت أيضا غير تقليدية لجهة كسر الانماط التي كانت سائدة آنذاك… أصبحت اللقاءات طبيعية بل أحيانا من دون ترتيب.
احببته أو كرهته فالرجل ظاهرة. يعترف بذلك خصومه قبل اصدقائه. ولا اكشف سرا ان قلت ان كل ما كان يمرره لنا للنشر، من خلال التصريحات أو المقابلات أو في جلسات خاصة، كانت الايام تترجمه ونراه حقيقة. لم يكن يضرب في الرمل أو يبصر في فنجان أو يقرأ الطالع، ولم يكن يعتمد فقط على ملكة التحليل الذي يبرع فيه، بل كان يقرأ المعطيات جيدا، ويعتمد على المعلومات التي يستقيها من مصادرها المباشرة، وعلى الاتصالات الشخصية التي يجريها مع جميع زعماء العالم. اكثر ما كان يكرهه هو خلط التمنيات الشخصية بالتحليل على عادة مسؤولين عرب كثر. كان دائما يقول إنه يتمنى ان يحصل هذا الامر أو ذاك لكنه يستدرك فورا بان ما سيحصل هو عكس ما يتمناه استنادا الى المعلومات التي يملكها أو اتجاهات الريح الدولية.
يكره الشعارات التي لم تحرر ارضا ولم تسد جوعا ولم تبن دولة. يمهد دائما للحلول الصعبة ويحضر الارضية لها. أسس مدرسة الواقعية في السياسة العربية بعدما كان غيره يؤسس مدارس عاطفية ويلعب على مشاعر الجماهير حبا بمنصبه واستغلالا لها. قرأ قبل كثيرين ان الثورة الاعلامية والتكنولوجية لن تنتظر العرب وان اعلام الحزب الواحد وابواق الاحزاب لم تعد تنفع معها القبضة البوليسية اذ يمكن للمرء ان يعرف الخبر من جهاز صغير في يده… وهنا ايضا يعترف له خصومه قبل اصدقائه بانه صنع ثورة اعلامية على الصعيد المرئي مهما قيل عن اهداف هذه الثورة التي تعممت لاحقا ولعبت دورا كبيرا في التغييرات السياسية.
في أحد الحوارات الصحافية معه سألته عن السقف الذي يمكن أن أتوقف عنده في الاسئلة، فأجاب بلا تردد ان لا سقف لديه. سألته عما يقال في الاعلام عن قضاياه الشخصية فرد كما يرد على أي سؤال سياسي. وزير خارجية دولة خليجية يجيب عن امور مغرقة في التفاصيل تتضمن اتهامات شخصية تتعلق بالسلوكيات والافعال وفي صحيفة كويتية (خليجية) امر لم يكن متوقعا ولو في الخيال… لكنه حمد بن جاسم، الرجل الذي ألغى بجرأته من قواميس مسؤولين كثر كلمة «ابتزاز» وبادر هو الى الحديث بنفسه عما يخشى آخرون الهمس به.
لست في معرض الدفاع عن سياسات حمد بن جاسم، فلا هو بحاجة لمحامين، ولا هو يعتبر ان كل مواقفه صحيحة ودقيقة، ولا هو بقافل بابه عن اي نقد أو اعتراض أو اختلاف في المجالس العامة والخاصة. حتى الوزراء والمسؤولين الخليجيين والعرب الذين كانوا «يتصادمون» معه في الاجتماعات المغلقة كانوا يفاجأون بقدرته على ابقاء ما هو داخل البيت عندما يخرج متحدثا الى وسائل الاعلام، اضافة الى انهم مع الايام تعودوا على اسلوبه المباشر والصريح باعتباره معبرا سريعا للحلول والاتفاقات.
كثرت لقاءاتنا وأصبحت أكثر شخصية من مهنية بعدما اصبح هو رئيسا للوزراء وتركت انا رئاسة التحرير الى رئاسة مجلس ادارة مجموعة «الراي» الاعلامية اثر اتساع مجالاتها. وما لا يعرفه كثيرون عن حمد بن جاسم انه لا يفقد صلته الشخصية بأصدقائه مهما كثرت انشغالاته السياسية، ولا بأس ان اذكر انه توقف ساعات في باريس قادما من واشنطن فقط ليزورني في المستشفى حيث خضعت لعملية جراحية، ولا بأس ان اذكر انه يكثر من الاستماع الى النصائح خصوصا اذا كان هو موضع جدل، فيتصل ويسأل عن خلفية الهجوم عليه أو «الافتراء» عليه وما اذا كان هذا الطرف أو ذاك زج اسمه لاستفزازه أو استدراجه أو «استدراج عروض»… وللحقيقة، والحقيقة فقط، اقول انه غالبا ما يأخذ بالنصيحة خصوصا اذا كان الموضوع يتعلق بـ«البيت الخليجي».
لم تكن تزعجه كل الاقاويل عن خلاف مع «الأمير الوالد» في قطر الشيخ حمد بن خليفة أو حتى عن «عتب» تلقاه منه. لان العلاقة كانت أمتن مما يتوقعه البعض، ولان حمد بن جاسم كان دائما يردد ان الامير أميره ورأس الدولة وهو يأمره ولا يحاوره ان اراد. ومن يعرف حقيقة الشيخ حمد بن خليفة ورؤيته للامور وحكمته وسعة صدره وذكائه يعرف ان كل هذه الامور بعيدة عن الصحة وان العلاقة بين الرجلين كانت نموذجا للعلاقة بين «كبير» وبين «يده اليمنى».
حمد بن جاسم اليوم يسن سنة جديدة ومختلفة في الحياة السياسية الخليجية والعربية. يترك المنصب لآخرين وللاجيال الشابة وهو في عز عطائه وحيويته وديناميكيته. يترجل عن صهوة جواده والسباق لم ينته بعد. يغادر ويبقى للنصح والمبادرة والتوجيه. يترجل ولا يرحل بل يستمر في الميدان بعطاء آخر وأساليب اخرى، فالعمل العام لا يحده منصب، ومن كان يعشق بلاده الى الدرجة التي يعشقها حمد بن جاسم لابد ان تسكنه قطر في أي زمان ومكان.

جاسم بودي

المصدر جريدة الراي

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.