فخري شهاب: الكويتيون “والكويتيات”… المحبون الكويت

لم يبلغني أحد من قرائي الكرام حتى اليوم أنه يستهجن ما كتبت إلا شخص واحد، هو صديق حبيب حميم، أنحى عليّ باللائمة لما ميّز كتاباتي من السخرية والمرارة، قال إنها حَريّة أن تثير في النفوس ردود فعل سلبية من الحكمة تفاديها. وقد يكون صاحبي محقا، ولكن فاته أن يستشف سبب ما أشقاني، وهو نتيجة لما رأيت حولي خلال أكثر من خمسين عاما من العشوائية والتخبط والتفريط في مصلحة البلاد.

وقد توقفت فحاسبت نفسي حسابا دقيقا، ويؤلمني أن أعلن أن مراجعتي هذه زادتني قناعة أنّ تجنّب الصراحة في عرض مشاكل البلد لن تكون نفاقاً فحسب، بل إهانة بالغة أربأ بالكويت عنها، فمعناها أن الكويت ما فتئت طفلة مدللة لا قدرة لها على مواجهة مشاكلها مواجهة الراشد المسؤول: أفهذا ما تأمل الكويت سماعه من محبيها: استحسانا وتصفيقاً كي تمضي في أخطائها؟ غش، ونفاق، وسخرية، هو ما يريد للكويت محبّوها؟

***

الأمانة والصراحة

تواردت هذه الخواطر لي وأنا أتهيّأ لكتابة مقالي الاسبوعي، فقررت السير على عادتي: توخي الأمانة والصراحة في نصحي، فمن رأيي ان لا خير في نصح مبرقع بحرير من نفاق.

يتشدّق الكويتيون بحبهم للكويت، ويفخرون بالتفادي لخدمتها، وتضحية النفس والنفيس من أجلها، فكيف يظهرون ذلك؟ يبدون حبهم لبلدهم بطريقة مدهشة: هي الحصول على أقصى ما يمكن الحصول عليه من ثروته، وبكل وسيلة من الوسائل المباشرة وغير المباشرة، مشروعة أو غير مشروعة، وتبديدها: من رواتب حكومية ضخمة، وعلاوات سخية لكل فاعلية يقوم بها الموظف، وتأمين السكن للمواطن، واطعامه، ووفاء ديونه وفوائدها، وعلاجه بالمجان داخل الكويت وخارجها، وتعليمه بالمجان، من رياض الأطفال حتى الجامعات، فضلا عن علاوات ومدفوعات ومكافآت لا حصر لها ولا عد: اذا عطس أو سعل أو ظعن أو قام!

استغلال الفرد للدولة

ولا تقتصر هذه النفقات على الفرد، فباسم المصلحة العامة، وتشجيع التجارة والصناعة تجهّز الدولة الماء والكهرباء بأبخس الأثمان للأفراد والشركات، وتزودهم بخدمات مجانية طائلة، لا يحلم بها مواطن، ولا شركة في العالم. خدمات مجانية أو شبه مجانية للمشاريع الفردية تضيف لأرباح مساهميها أرباحا مصطنعة تفخر بها مجالس اداراتها، من دون أن يلتفت أحد الى ما ينتج عن ذلك من انعدام المنافسة، وترهل المشروع الفردي، ناهيك بعُطَل لا حساب لها يُشلّ فيها الاقتصاد الوطني شللا يحرص الكل على تناسيه!

وتجامل الدولة عليّة القوم بالسماح لهم باحتكارات تحاول الدول الأخرى (كأميركا والاتحاد الأوروبي) القضاء عليها، فتأتي في الكويت كضريبة يدفعها ذوو الدخول المحدودة، ضريبة مقنعة، لتزيد ثراء الأثرياء!

وليت استغلال الفرد للدولة، التي يترنم بحبها ويدّعي التفاني في خدمتها، يقف عند هذه الحدود: فالمرتشون ليسوا وحدهم الذين ينفردون بخيانة البلد الذي يدّعون حبه، بل يشاركهم في جريمتهم مزوّرو الشهادات، والمتحايلون على ساعات الدوام، والمتمارضون، ومخالفو قواعد السير، بل حتى من يلوثون البيئة، وألوف آخرون غيرهم ممن يعتبرون التحايل على القوانين لسلب المال العام مهارة يعتدون بها. هؤلاء جميعا يدينون بالولاء للكويت، ولكنهم هم المجرمون بحقها من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون: كل كسر لقوانين الكويت استخفاف علني بالدولة الكويتية: بالجهاز التنفيذي لها، بدستورها، وبالمراحل التشريعية المختلفة التي يمر القانون منها!

***

جهل واستخفاف بالواجب

وتتخذ خيانة الوطن ألوانا شتى، فهناك الاعتداء العمد على الدولة والاستخفاف بها كجريمة الرشوة، أو تزوير الشهادات أو العملات، وهناك الجريمة العفوية، يرتكبها الجاهل اتباعا لعرف أحمق جرى العمل به، وأستشهد هنا بقصة طريفة جرت لي على اعتداء الموظف الكويتي على الدولة والمواطنين معا، اعتداء سببه الجهل والاستخفاف بالواجب:

كنت كلفت سائق سيارتي ذات يوم أن يبْرد لي رسالة بالبريد الجوي مسجلة لأهمية ما تضمنته، كما رجوته أن يبردها من مكتب البريد المركزي، وبعد غياب طال نحو عشرين دقيقة عاد إلي والرسالة في يده، فسألته عن السبب؟ قال: «البنات يقلن تعال غدا (بكرة)»، فسألته عما جرى.. هل اليوم عطلة؟ قال لا، وقص عليّ كيف أنه اتجه الى شباك البريد المختص بإبراد الرسائل المسجلة، فرأى خمس سيدات في القسم الخلفي من المكتب، اجتمعن لشرب الشاي، فلما لوّح لهن بالرسالة أشرن إليه اشارة تعني أن يذهب الى الشباك المجاور لشباكهن، فلما ذهب إليه وشرح مطلبه، اتضح أن الشباك الثاني لا علاقة له بالرسائل المسجلة، فأشير عليه بالعودة الى الشباك الأول، فلما عاد اليه تأففت الموظفات المجتمعات لشرب الشاي من إصراره، واقترحن عليه أن يعود غدا، فعاد لي كما قدمت!

وإذا، حسب القارئ الكريم، أن ما قصصت كان استثناء لا يعتد به، فإليه قصة أخرى هي أحدث وأطرف، وأدعى للأسى والأسف: سألت شابا يعمل في احدى مؤسسات الدفاع الكويتية المحترمة عن طبيعة عمله، وعما اذا كانت مرهقة، فقص عليَّ متندراً ما يلي: قال استدعاني ذات يوم الى مكتبه الضابط الذي يرأس الوحدة التي أخدم فيها، فلما مثلت بين يديه، قال لي (والحوار ينقل هنا بتصرف): يا فلان اسمع، خذ هذا المفتاح واتجه الى مخزن العتاد الفلاني (وسمّى مخزنا عينه)، فإذا دخلت وجدت على جانب معين من المخزن (وذكر موقعه بدقة) كمية من العتاد الثقيل، انقلها من الزاوية الجنوبية الشرقية (مثلا) من المخزن الى الزاوية الشمالية الغربية (مثلا)، فإذا أنجزت ذلك أقفل المخزن وأعد المفتاح لي. فهمت؟ فأجبت بالإيجاب، وحييته وانصرفت؛ فلما وصلت الى المخزن المعني وجدت كمية ضخمة من العتاد متباينة الألوان: فيها الأصفر الفاقع، والأحمر القاني، والأزرق الغامق…الخ. وليس على الجدران ولا بين يدي ما يرشدني الى كيفية تحريكها أو لمسها، دع عنك نقلها من مكان الى آخر! فهالني ذلك، فعدت الى رئيس وحدتي أشكو له ما روّعني، فقال رئيسي، وإمارات الغضب والاستغراب تبدو على محياه: «ومن قال لك أن تنقل العتاد بيديك؟ خذ لك اثنين من الـ…. (وسمى افراد جماعة معينة من الخدم) لينقلوا العتاد، وأشرفْ أنت على عملية النقل عن كثب»! وإذاً، فخدمة الكويت لا تتم مباشرة، بل تتم بالواسطة أحيانا اذا اقتضت الظروف ذلك – وكفى الله المؤمنين شر الدفاع المباشر عن الأوطان!

أفهذا، إذاً، هو الجيل الذي أنتجته الكويت المستقلة للدفاع عنها؟ أهذا ما وُضعتْ برامج التربية الوطنية من أجله؟ هل اطلّع المسؤولون عن التربية في الكويت على نظم التربية في الصين أو اليابان؟ وكيف وجدوا المقارنة بين ما يجري في هذين البلدين وما هو جار في الكويت اليوم؟ يا أصحاب الفضل والعلم والخبرة، سادتي الدكاترة المربون، أأنتم فرحون بما تشهدون؟ أهذا هو النجاح الذي كنتم تخططون له؟ هل سأل سائل نفسه لمَ آلت الأمور الى ما آلت اليه؟ وكيف ومتى ومن أين يبدأ الاصلاح؟

لقد علمتني العقود الطويلة التي قضيتها على هذه الأرض أن الإصلاح لا يستلزم الإنفاق والسرف، وأن طريق الاصلاح محفوف بالصعاب، وأنه معقد طويل، وأن ليس ثمة حلول سحرية سريعة تباع في الأسواق، وأن الناس يحصدون ما يزرعون.

***

قرأت ما كتب عني الأستاذ الفاضل السيد أحمد الصراف مستنكراً «رجعيتي»، ومستخفاً بتمسكي بأخلاق السلف وتقاليدهم، فدعني ألخّص له قصة عثرت عليها في كتاب من كتب السير، التي قد يتعالى هو عن قراءتها: خرج رجل من الكوفة الى الحج، فلما دخل الصحراء، التي تفصل العراق عن الحجاز، أدرك أن ما كان يحمل من زاد لن يسد حاجته في رحلته الطويلة، فاتفق أن رأى صبياً يرعى قطيعاً من الغنم، فعرض الكوفي عليه شراء شاة من القطيع لرحلته، فقال الصبي الراعي إنه محض راعٍ لا يملك حق بيع الشاة، فقال له الرجل قل لصاحبها أنْ قد افترسها الذئب، فرد الصبي يقول: «سيدي! وأين الله؟».

هذه القصة تستثير دموعي كلما قرأتها! أفلا تستثير دموعك، يا سيد أحمد؟ وكلنا غداً واقف بين يديه لمراجعة الحساب! هذا هو الخُلق الذي تناساه هذا الجيل والذي يُعاب عليّ الاقتداء به. من هنا يبدأ الإصلاح، من رياض الأطفال، بل من أحضان الأمهات لا من أذرع الخادمات الهنديات المرهقات التاعسات! أتتفق معي هداك الله؟!

فخري شهاب
المصدر جريدة القبس

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.