كمن يخلع عنه رداء قديما ومتسخا, ويرمي به في سلة الغسيل, هكذا يفعل الناس بحس التعاطف لديهم مع الغير, فهم يخلعونه عنهم شيئا فشيئا حتى كادوا لا يرتدون منه سوى جورب, أما باقي ما يلبسون فهو رداء صلب لا يخترقه من حكايا الناس شيء ولا تبلله دموع الغير ولو بالقليل, ولا تترك مصائب الناس عليه شيئا من أثر.
ولعل السبب في امتناع الناس أخيراً عن التعاطف مع غيرهم هو كثرة المسؤوليات التي يحملها إنسان اليوم, فمع ثقل وزن المسؤولية يثقل القلب بالهموم والأحزان على ما تحقق ولم يتحقق, الأمر الذي لا يترك مجالا عند غالبية الناس ان يسمحوا لأنفسهم بالإنصات لمشكلات الغير, أوقصص همه, أو حكايا حاجته. وإذا كان تفسيرنا هذا يعطينا سببا نفهم من خلاله سلوكا اجتماعيا غالبا علينا الآن, إلا أنه لا يعد مبررا لخشونة القلب, ولا لفظاظة اللسان اللذين أشهدهما بوفرة في أكثر المجالس حميمية وأقواها علاقة, فهذا شاب يشاطر أهله بعضا من همه ليستقبل بكلمة “لا تعكر علينا صفو مجلسنا يا صاحب”, وهذه فتاة توشك أن تطرح سرها عن عاتقها في جلسة تجمعها بأصحاب لتنهر بـ “اتركي عنك لحن النكد هذا وإلا تركناك ورحلنا”, والمثل يقال لامرأة الثلاثين ورجل الأربعين وسيدة الخمسين وصاحب الستين, لكن بطرق وفنون أخرى أقل حدة كـ “استهدي بالله واخرجي من همك فما اجتمعنا إلا لنفرح”, أو”يا رجل ما لنا والمشكلات الآن فكلنا مثقل بهمه”.
إلا أن رغبة الكثيرين التي لا تشبع بالاطلاع على خصوصيات الغير, وماذا يأكلون وكيف يتشاجرون, ومتى يتصالحون, وأين يسهرون, وبماذا يتسامرون, وأين يسافرون وكم من الأموال ينفقون? كل هذا الفضول ألبس حس التعاطف عند الناس رداء الحشرية المشين والمخزي, فأصبح الناس يقبلون على السؤال عن حال غيرهم بوجه ظاهره الاهتمام والرغبة بالاستماع لشكوى الغير, وباطنه فضول القول, وهو ما يعرف في قاموس المعاني على أنه “اشتغال المرء بما لا يعنيه”.
ورغبة الناس في معرفة كل ما هو سطحي وهش, وصدهم لأبواب المعرفة بكل ما هو إنساني وعميق جعل منهم أناسا جاهلين لأنفسهم وللغير, عاجزين حتى عن فهم أنفسهم بتقلباتها وأمزجتها واختلافاتها وتصالحاتها, الأمر الذي بدوره جعل منهم أناسا غير قادرين على الحكم على الغير, وبالتالي غير قادرين على اختيار رفقتهم, وبالتالي غير قادرين على التحكم في تدوير دفة حياتهم, وغير قادرين على الوصول لغاياتهم, وغير قادرين على إرضاء أنفسهم.
لعل ما يجب على الناس إدراكه أن أصل هذه الحياة هو الإنسان, وأننا من دون أن نبذل جل طاقاتنا وجهدنا في فهم ما نحن عليه لن نتمكن أبدا من إدراك مفاهيم نحيا بها, كالسعادة, والرضى, والراحة والسلام, والتناغم, والحب, وأننا من دون أن نسمع لن نحس, وأننا من دون أن نحس لن نتعاطف, وأننا دون أن نتعاطف لن نفهم أبدا, لذلك نجد مكاتب المرشدين النفسيين والمعالجين الاجتماعيين تضج بالناس الذين لا رغبة لديهم سوى ان يسمعوا ويقدروا حق قدرهم, فاختاروا أن ينفقوا من جيوبهم ثمن وقت يسمعهم أحدهم فيه, عندما فشل من حولهم من أن يدفعوا من وقتهم لقاء جلسة ودية تخلو من أسئلة فضولية وتمتلئ بروح إنسانية لا تطمح لأكثر من أن تساعد.
h_alhuwail@yahoo.com
المصدر جريدة السياسة
قم بكتابة اول تعليق