من أجمل ما رافق الثورة الثانية للشعب المصري والتي أطاحت بحكم الرئيس الإخواني محمد مرسي معلنة انتهاء حقبة كئيبة من تاريخ مصر، من أجمل ما رافق هذه الثورة هو عودة «المحترفين» للعمل على إدارة الدولة المصرية التي تواصل أنينها أكثر من سنة مضت وهي تعاني من زمن عمل «الهواة».
الترتيب والتنظيم اللذان رافقا عملية الإعلان عن خلع الرئيس محمد مرسي والبدء بالإجراءات بصفة مؤقتة وإلغاء الدستور والإعلان عن انتخابات رئاسية مبكرة بحضور أبرز الشخصيات الدينية والسياسية والفكرية في مصر، إنما تدل على عودة المحترفين الى ملاعب السياسة المصرية، فهم باختصار سكبوا الماء البارد على الدعاوى الساخنة من الإخوان بأن ما جرى ويجري في مصر إنما هو انقلاب عسكري على الشرعية المصرية التي وصلت عبر صناديق الاقتراع.
لقد أثبت العسكر المصريون الذين أداروا الأزمة باقتدار واحتراف انهم قادرون على احتواء أصعب الظروف والحالات دونما الدفع بالبلاد نحو التصادم أو الإجراءات الدموية.
لقد حظيت الإجراءات التي أعلنها الفريق أول عبدالفتاح السيسي بالمشروعية في ظل وجود هذه الشخصيات فأحبطوا فوراً ما روج له الإخوان المسلمون ليس في مصر فقط ولكن في كل الدول العربية وغيرها من دول العالم إذ كانوا يرددون سيمفونية واحدة سواء بتصريحاتهم أو تعليقاتهم في البرامج التلفزيونية أو تغريداتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يثبت أنهم يتلقون توجيهات موحدة ونقاطاً مشتركة، وما عليهم إلا أن يعيدوا صياغتها كل بأسلوبه.
ما واجهته المحطات الفضائية الموالية للإخوان المسلمين أيضاً لهو أمر يؤكد الاحتراف وان العسكر إذا عملوا.. فإنهم لا يتركون مجالاً للأخطاء أو الصدفة.
لقد انتظروا حتى انتهت هذه المحطات من بث كلمة الفريق السيسي، وبمجرد انتهائه من كلمته تحولت كل هذه الفضائيات الى مجرد شاشات سوداء بعدما أوقف بثها في لحظة واحدة. وبالتالي، تمكنوا من منع المعارضين والمناوئين لهذه الإجراءات الجديدة من الاعتراض وتفنيد خطاب السيسي والرد عليه واستضافة الضيوف. لقد مارس العسكر القمع الإعلامي للحفاظ على ما اتفق عليه غالبية الشعب المصري. وهذا أيضاً «شغل محترفين» وليس هواة.
قد يقول قائل إن في مثل هذه الإجراءات كتماً للأنفاس ومنعاً للحريات وقمعاً للرأي الآخر، وهو كلام صحيح، ولكن وجهة نظر العسكر أنه إذا كان الرأي الآخر سيؤدي الى سفك الدماء وجريانها مثل البحور، وإذا كان هناك من يخطط لتحويل لون نهر النيل الى اللون الأحمر، فليذهب الى الجحيم هو ورأيه الآخر.
وهذه إشكالية فكرية قديمة وجدلية موجودة منذ زمن، هل من حق من لا يؤمن بالديموقراطية أن يعامل بديموقراطية؟.. وهل من حق من لا يؤمن بالرأي الآخر أن يفسح له المجال لإبداء رأيه «الآخر»؟.. وهل من حق من يمتطي الديموقراطية ليصل الى بلعومها ويخنقها أن يعامل بديموقراطية؟
لو تشبثنا بالشكليات في الحالة المصرية مثلاً لكان لزاماً على الشعب المصري أن يتحمل مرسي لثلاث سنوات قادمة، ومعنى ذلك المزيد من العزلة السياسية المصرية، والمزيد من التدهور الاقتصادي، والمزيد من التضخم، والمزيد من تهاوي العملة، والمزيد من البطالة، والمزيد من الإخفاق الأمني وعمليات الاختطاف والترويع والابتزاز، والمزيد من الانهيار الكهربائي والمائي، وإغلاق المزيد من المصانع والاستمرار في ذهاب هيبة الدولة مع هبّات الريح.
بالمقابل، فإن الثورة المصرية الجديدة هذه صالحت الشعب المصري مع نفسه، وصالحت الشعب مع الشرطة، وثبتت سلطة الجيش كمرجعية عليا منحازة لصالح الشعب المصري، حارسة على ثوراته وأهدافها.
المطلوب الآن، أن يتفرغ المصريون لبناء ما أفسدته الحقبة السابقة وينهضوا ببلادهم من جديد بالعمل وردم الفجوات وجَسْر الهوّات، وألا يغرقوا في الانتقام. فمن يغرق في الانتقام لن يمضي قدماً أبداً.
{.. وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين}.. صدق الله العظيم.
قالها رب العزة والجلالة، وستستمر مصر بمشيئة الله دار أمن وأمان لها.. ولمن يدخلها.
٭٭٭
الثورات لا تقوم عادة على نظام «فاشل»، ولكنها تقوم ضد نظام «ديكتاتوري»، والإخوان نظام ديكتاتوري وفاشل.. ولذا كانت الثورة عليهم أكبر مما كان ضد نظام الرئيس السابق حسني مبارك.
وليد جاسم الجاسم
waleed@alwatan.com.kw
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق