لسنا من مدرسة التشفي، بل من المدرسة التي تعتبر التشفي جزءاً من التخلف والجهل السياسي، ولذلك سنكمل بهدوء مقاربتنا للقضية المصرية تماما كما كنا نفعل.
قبل سنة، كتبت في هذه الافتتاحية مرحبا بالانتخابات المصرية وبوصول الرئيس محمد مرسي إلى سدة الرئاسة باقتراع ديموقراطي لم تشهده البلاد في تاريخها. كانت الافتتاحية بعنوان «إخوان… مصر الجديدة»، قلت فيها ان قضايا مصر لا تنحصر بها لان مصر هي الرافعة العربية التي يمكن أن تقود محيطها إن أحسن نظامها السياسي القيادة أو أن تعمم الجمود والتراجع في محيطها إن أخفق نظامها السياسي أو تعثر.
يومها سمحت لنفسي بأن اوجه بعض «النصائح» ملاحظاً ان استقامة الأوضاع تحتاج إلى جملة عوامل أهمها:
«أن يفتح إخوان مصر صفحة المصالحة مع كل القوى السياسية التي تختلف معها وفي طليعتها القوى التي حصدت 48 في المئة من أصوات المصريين».
وأن تغلق السلطة الجديدة نهائيا «الملف السياسي العربي التقليدي المليء بمفردات التشفي والانتقام، استجماعا لطاقات لابد من اتفاقها كي تتقدم مصر».
وأن يحقق «الإخوان» إنجازا تاريخيا مهما «بالانتقال من دولة الحزب إلى حزب الدولة».
وأن يصار إلى «تحصين النظام الديموقراطي المصري بسلسلة من التشريعات والقوانين والبنود الدستورية التي تحرم الاعتداء على مبدأ التعددية السياسية وحرية التعبير والديموقراطية».
وأن تنتقل مصر «من تقديس قائد النظام إلى احترام النظام القائد».
وأن تقوم «حياة حزبية وسياسية حقيقية بعيدة من الاصطفافات الضيقة ايديولوجيا ودينيا، فمصر مؤهلة أكثر من غيرها كونها لا تعيش صراعات حادة معلنة ومبطنة بين طوائف ومذاهب وديانات وطبقات».
وأن يكون شعار الرئيس الجديد… «المصري أولا»، فرخاء المواطن المصري وتحسين مستوى معيشته وظيفيا وتربويا وصحيا وعلميا والقضاء على التفاوت بين الفئات وتأمين فرص عمل وفتح الاقتصاد المصري على كل مجالات الاستثمار وتعميم ثقافة العمل والانتاج، كلها أمور تشكل حصانة وطنية وتؤمن استقرارا وتعزز سيادة.
هذا ما كتبته وتمنيته وتمناه كثيرون. إنما الرياح جرت بما لا تشتهي سفن التمنيات.
في ما يتعلق بالمصالحة مع كل القوى السياسية التي يختلف معها «الإخوان» وفي طليعتها القوى التي حصدت 48 في المئة من أصوات المصريين، حصل العكس إذ نبتت فجأة قضايا وملاحقات دفعت المرشح الرئاسي المنافس إلى مغادرة مصر، واتسع مصطلح «الفلول» وصار تهمة جاهزة لكل من يعارض ويعترض. لم يقفل ملف التشفي والانتقام بل اضيفت اليه صفحات جديدة توجت بالخطاب الرئاسي بالذكرى السنوية لتسلم الحكم حيث تم الطلب من المحافظين والمسؤولين «تطهير» الإدارات ممن سموا «العابثين».
لم تحم التعددية بقوة القانون بل عاشت مصر عاما كاملا من الصراع بين السلطة السياسية وحماة القانون، وكان واضحا ان السلطة لم تتعامل مع القضاء بمنطق إصلاحي إداري بل بمنطق انتقامي عشوائي وهو الامر الذي اعترفت به الرئاسة من ضمن الاخطاء التي ذكرت انها ارتكبتها وبينها قصة الاعلان الدستوري.
كان من البديهي ان يقوم ائتلاف حاكم بين كل القوى التي اوصلت مرسي إلى الرئاسة لان قواعد المرشحين الآخرين الاقوياء صوتت له في الاعادة ضد منافسه ولان الاصوات التي نالها كانت اصواتا «جماعية» لا اصوات «الجماعة». توقعنا نائب رئيس ورئيس حكومة من الائتلاف الذي دعمه لكن العكس حصل… وتفننت السلطة في تحويل الحلفاء إلى معارضين.
وعن انتقال «الإخوان» من دولة الحزب إلى حزب الدولة فان التجربة دلت للاسف الشديد على ان «الإخوان» لم ينتقلوا من «الجماعة» إلى الحزب قبل ان نقول انهم انتقلوا من الحزب إلى الدولة.
أما تحصين النظام بسلسلة من التشريعات والقوانين والبنود الدستورية التي تحرم الاعتداء على مبدأ التعددية السياسية وحرية التعبير والديموقراطية، فنحيلكم إلى الوعود الرئاسية التي اعطيت وتم التراجع عنها والى التخبط في التعاطي مع كل القضايا.
وبالنسبة إلى «تقديس النظام القائد لا قائد النظام»، فقد تبارى علماء وسياسيون ومسؤولون في خطاباتهم واطلالاتهم التلفزيونية اليومية في تقديس مرسي ووضعه في مصافات غير بشرية وهددوا معارضيه بالدم ان هم رشوه بالماء… وكم يبدو مفيدا هنا التوقف عند عبارة رئيس المرحلة الانتقالية المستشار عدلي منصور في خطاب القسم، عندما تمنى ان تنتهي إلى غير رجعة عبادة الحاكم التي تخلق منه نصف إله، وان تسقط كل انواع القدسية والحماية والحصانة التي يضفيها الضعفاء على الحكام والرؤساء وان نتوقف عن انتاج صناعة الطغاة ولا نعبد من دون الله جل جلاله صنما ولا وثنا ولا رئيسا.
تعثر قيام حياة حزبية وسياسية حقيقية بعيدة من الاصطفافات الضيقة ايديولوجيا ودينيا، ولذلك احتل شباب غير مؤدلج وغير مؤطر في احزاب وتيارات ساحات الاعتراض والتمرد. اما كون مصر بعيدة عن الصراعات الحادة بين طوائف ومذاهب وديانات وطبقات، فقد حصل للاسف الشديد ما لم يكن احد يتوقعه وابشعه على الاطلاق قتل مواطنين مصريين وسحلهم والتمثيل بجثثهم على اسس طائفية محضة، اضافة إلى اجواء الشحن المستمر بين تيارات السنة انفسهم، والمسلمين والاقباط».
وفي شعار «المصري اولا» وما يستتبعه من برامج تنموية واقتصادية تنقل المواطن من مرحلة إلى أخرى، فلا داعي للقول ان المصري كان الضحية الاولى للازمة الحاصلة ودفع الثمن من قوت يومه وعملته المنهارة والخدمات المتردية فلا امن ولا كهرباء ولا محروقات ولا نظام.
اليوم تعبر مصر من الجمهورية الثانية إلى الجمهورية الثالثة. تعبر من باب القضاء ومظلة التوافق السياسي والخبرات والكفاءات وبمواكبة القوات المسلحة. وهو العبور الممزوج ايضا بالمخاوف استنادا إلى حجم التحديات الداخلية والخارجية، فكي نكون منصفين لا يجوز تحميل «الإخوان» كل أوزار الفشل في مواجهة التحديات رغم الاخطاء التي ارتكبوها، لان مشاكل مصر لا تواجه فقط بالشعارات والتمنيات بل بالارادات الفاعلة والنيات الصادقة والوعي السياسي.
الصورة غير وردية تماما كما يصورها المتحمسون، وما قلته قبل عام اكرره اليوم بالنسبة إلى السلطة الجديدة، واعتقد ان التجربة تفرض مد اليد إلى الجميع، إلى «الإخوان» قبل غيرهم، حتى تتسع ميادين العمل الوطني في مصر لكل الطاقات وتنتهي من قواميسها ذهنية الانتقام والتشفي والالغاء والاقصاء.
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق