بعد أن أتحفنا النائب جمعان الحربش الأسبوع الماضي بقوله إنه يريد «دولة مدنية بمرجعية إسلامية» جاء دور زميله عبداللطيف العميري هذا الأسبوع ليتحفنا بمقولة أخرى عن الدولة المدنية حين تساءل: «ما الفرق بين الدولة المدنية والدولة الإسلامية؟ فأول دولة مدنية صارت في الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل كانت دولة الرسول التي أقامها دولة عسكرية، أو دولة دكتاتورية؟ وأليس من المفترض أنك تسعى إلى الأفضل والكمال، والكمال هو ما كان عليه الرسول وهذا ما نسعى إليه… فشرع الله عز وجل هو أبو القوانين، ورب العالمين الذي خلق الإنسان هو من يعرف وحده ما يصلحه وماذا يفسده وليس البشر»! أولاً يا سيدي غير صحيح أن دولة الرسول كانت مدنية، فقد كانت دولة دينية تقوم على الأحكام الإلهية مثلها في ذلك مثل بقية الدول في ذلك الوقت، حيث الارتباط الوثيق بين الحكم والدين، فدولة الفرس كانت مجوسية، ودولة الروم كانت مسيحية، والرسول لم يجعل دولته استثناءً عمّا يجري من حوله، فاستمد أحكامه وتشريعاته من القرآن الكريم ومما يوحى إليه ويجري على لسانه من أحاديث. وقد كان من الضروري للإسلام أن تكون له دولته الدينية ليحافظ على وجوده في ظل صراعات أممية تقوم في أغلبها على أساس الدين ومن أجله، ولو لم يفعل لما استمر الإسلام ولما انتشر بعد ذلك عبر الفتوحات التي كانت جهاداً مقدساً من أجل الدين، ومن أجل أن ينتصر ويتسيد بقية الدول الدينية في ذلك الزمن، والتي كانت بلا استثناء تضع الأفضلية لحامل دينها على الآخر الذي تفرض عليه إما اتباع الدين، وإما دفعه ضريبة مالية باهظة، ولم تشذ دولة الإسلام عن هذه القاعدة، وإن كانت أقلها تشدداً مع المختلف وأكثرها رحمة. ولسنا هنا في مفاضلة، بين الدولة الإسلامية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والدولة المدنية الحديثة التي تحولت إليها معظم دول العالم، حيث ينصهر الجميع تحت دستور وقانون لا يفرق بين أحد منهم على أساس من الدين أو الجنس أو العرق، فالظروف تختلف والزمن يختلف، ولا تجوز المقارنة أبداً. أما الكمال الذي ينشده سيادة النائب فهو لله وحده، ولم يطالبنا به لا الله ولا رسوله، وصحيح ما قاله إن الله خالق الإنسان ويعرف ما يصلحه ويفسده، لكن نبيه الكريم يقول «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وإدارة الدول من أمور الدنيا التي لم يرد بها تفصيل في القرآن أو السنّة، وإنما ورد فيهما مبدأ عام هو «أمرهم شورى بينهم» والشورى بالمعنى الذي فهمه الأولون لا يتناسب تماماً مع ما قام به سيادة الأخ العميري من ترشح لانتخابات برلمانية تقوم على اختيار الشعب- بمن فيهم النساء- فقد كان مفهوم الشورى أن يختار الخليفة مجموعة من أهل الحل والعقد ليستشيرهم في أمور الدين والدنيا. إذن، فالشورى مبدأ إسلامي عام، وللناس حرية ما يرونه من طريقة مناسبة لتطبيقه، وهو مبدأ قابل للتطور مع ثبات المعنى الرئيس، وهو ألا ينفرد بالرأي حاكم أو خليفة أو أمير، والقول إن الكمال ما كان عليه الرسول صواب في عموميته إن كان الحديث عن أخلاقه وسماحته والقيم والمبادئ التي قدمها لنا، أما في شؤون الحياة وأمور الدنيا فقد كان يستشير صحابته في كثير من الأمور، وكذلك زمنه لم يكن أكمل الأزمنة، فلم يكن يتاح للرسول ما أتيح لنا اليوم من تسهيلات قدمها لنا العلم، فقد كانوا يستخدمون الدواب في تنقلاتهم والخلاء في قضاء حاجاتهم والسيوف في حروبهم، ولو كان في ذلك الزمن ما لدينا اليوم من تقنيات لما تردد الرسول لحظة في استخدامه، وما ينطبق على هذه التقنيات ينطبق على الفكر الإنساني الحديث، والذي أنتج لنا فكرة الدولة المدنية بعد صراعات وحروب دموية طويلة خاضتها الأمم بسبب الدين. إن الدولة المدنية الحديثة لا تتعارض مع خصوصية الدين لكل فئة من فئات المجتمع، بل تدعو إلى التعايش والتسامح والمواطنة على أساس المساواة في الحقوق والواجبات بين الجميع دون تمييز أو أفضلية لأحد على الآخر، فما مشكلة الإخوة النواب مع هذه المدنية الجميلة التي توحد بين الناس؟ ولماذا لا تستريح نفوسهم إلا بفرض رؤاهم ومعتقداتهم على الآخرين؟ العالم يتطور حولنا ونحن مشغولون بالماضي نستقي منه ما لا يعيننا على حاضرنا أو يكون زاداً لمستقبلنا، بل على العكس من ذلك، نبحث فيه عمّا يفرقنا ويكرِّه بعضنا بعضاً ويثير أحقاداً أكل عليها الدهر وشرب… لماذا؟!
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق