أكيد أنا، مثل غيري، فرح بالفزعة الخليجية السياسية والمالية الصادرة من تقدير تاريخي مصري لعطاء قديم نحو الحضارة الانسانية ونحو التآلف المصري مع وصول جيش المسلمين الى مصر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب.
ومنذ فتحت عيوننا على الدنيا نصف مصر بأنها بلد العقلانية والاعتدال والوسطية، هذه العناصر الهامة في حياة مصر ترسخت عبر مفهوم شرعية الاعتدال منذ تثبيت حكم محمد علي، وكانت الألفة المجتمعية أكبر أرصدة مصر في تطورها السياسي والثقافي مع بروز الدولة المصرية الحديثة.
كان رئيس وزرائها بطرس غالي قبطيا مع بداية القرن العشرين، ومعه تشكيلة فريدة من السياسيين من مشارب مختلفة تميزها الكفاءة والتسامح والعلم الغزير.
خروج مصر من شرعية الاعتدال دمرها وأذى جيرانها وخرب علاقاتها مع العرب، كانت حصيلة ظاهرة الزعامة المفرطة في العهد الناصري الذي جاء بانقلاب أخذ شرعيته من عوامل الخيبة والعجز المرافقة لحكم فاروق، كانت تلك الحصيلة في تخريب العلاقات المصرية – العربية أبرز العناصر في كارثة 1967، ونهاية حكم الهيمنة.
ولابد من القول إن السادات انتصر بالتعاضد العربي، الذي وصل الى حد فرض الحظر النفطي، لأن الرئيس السادات عاد الى المنحوت التاريخي المصري في الوسطية والتآخي وحسن العلاقات، وتواصل الخيط العاقل في عهد حسني مبارك الذي أخرجته معارضة وطنية شبابية تعترض على جموده وتوريثه، لكنها لم ترسم لمستقبل مصر نظاما متطرفا ثيوقراطيا الذي سعى الإخوان المسلمون لفرضه على مصر واخراجها من قالب الاعتدال التاريخي، دون دراية بحقائق مصر ودون ادراك ناضج للنكسات التي أصابت مصر والتي أفرزتها سياسات المطموح المشاكس، كما يظهر ذلك مع مغامرات محمد علي في الشام وفي السودان وتدخل الدول الأوروبية لصد هذا الطموح المخرب، ويكرر النظام الناصري غريزة الطموح الهادر فتأتي المأساة في عام 1967.
وتدور الأيام مع الاطاحة بنظام حسني مبارك، ويتسلل الإخوان بطريقة ملتبسة ليفوزوا بالرئاسة في انتخابات تثير شبهات.
مأساة الاخوان جاءت من تجاهلهم أن شرعية مصر تأتي من شرعية التأهيل التاريخي في الاعتدال والاحتضان، وليس من الفرض القسري لنظام ديني سياسي ثيوقراطي على الشعب الذي تتحسن أحواله بالهدوء والاستقرار المعتدل.
يجب ألا يغيب عن ذهن أحد من زعماء الاخوان في مصر أن الفزعة الخليجية هي لتأمين اعتدالها والاسهام في تصويب مسارها، والعمل مع القوى الوطنية المصرية لاخراجها من ذهنية التطرف والاستئثار بالحكم على أسس دينية مع أسلمة قوانينها وأخونة أجهزتها.
ليست دول مجلس التعاون الوحيدة التي تهب لانتشال مصر من وضعها المعقد الذي جاء من تصرفات الاخوان وانما العالم بكل زواياه في أوروبا والولايات المتحدة وآسيا وأفريقيا تريد ان تسهم مصر في المسيرة الدولية على أساس العمل الجماعي في عالم متفتح ومتطور.
ومهما قيل عن الاخوان فانهم غير مؤهلين للانضمام للركب العالمي في التناغم مع ضوابط العلاقات التي تنظم بين الدول، ولا يملك الاخوان بمن فيهم مرسي شرعية اللياقة والأهلية التي لا غنى عنها في القيادة الراشدة والمقنعة بأن المستقبل يحمل الأمل الكبير.
نعود الى دول الخليج التي نجحت في افشال مساعي الراديكالية الايرانية في التدخل في الشأن الخليجي وحققت الكثير من الانجاز في تطويق للمغامرات الايرانية، وما نراه الآن في سورية هو في الواقع مجابهة بين الراديكالية الايرانية والقوى الملحقة بها، مثل حزب الله وبين الفريق الاقليمي المعتدل ممثلا في دول مجلس التعاون وآخرين من الفعالية في تشييد منظومة الاعتدال الاقليمية.
ولا يمكن ان يتحقق النجاح في الشام دون اعادة مصر الى الفاعلية المعتدلة، ويتم ذلك بتأكيد نهاية حكم الاخوان في مصر وتقليم أظافر المتطرفين من القوى اليسارية والراديكالية والعلمانية المساندة لحكم الأسد في دمشق.
ولا شك في ان مصر بحاجة الى وقت طويل تسترد به حيويتها وتستعيد الثوابت التي تأسس عليها الاعتدال المصري، ومن أبرزها استنهاض القوى المصرية الوطنية التي تعمل لصالح مصر ومن أجل شعبها وفق برنامج تنموي عصري وسياسي منفتح تعمل فيه الأحزاب لتنظيم هذه القوى الوطنية في اطار وطني مصري بدون آيديولوجيات عابرة للوطنية ذات الأهداف الضخمة تتجاوز حدود الدولة، وبدون طموحات قيادية ترنو نحو الهيمنة.
هذا عصر العقلاء والمعتدلين العارفين بأن الشعوب تزدهر بالتعليم المنفتح وتتقدم بالتنمية المرسومة وفق خطة واقعية وشفافة، وليس بالشعارات أو الدعوة الى تجمعات ميدانية مليونية مع خطابات حماسية تتوعد بالويل والثبور.
ونقول ألف مرة إن الشعوب العربية، لاسيما مصر، لا تستفيد من غرس عناصر الكراهية للحضارة الغربية ولا تحصل على شيء صالح ومفيد من التشهير بهذه الدول وإلصاق التهم بتآمرها الدائم ضد المسلمين وإحاكة التآمر ضد المصالح الإسلامية. وتشكل الكراهية لأوروبا وأمريكا احد الثوابت البارزة في حياة الاخوان وفي معتقداتهم، بينما لا يملكون القدرة على اجراء مسح لحقائق الخيبات والتقصير والهزائم العربية التي نتجت من فساد وخراب وضعف المجتمعات والقيادات.
في عام 1948 كان الاخوان المسلمون القوى المؤثرة التي دفعت مصر الى المشاركة في حرب فلسطين على الرغم من ان قيادة الجيش ومن أبرزهم الفريق عثمان المهدي والفريق حيدر باشا قدموا تقريرا للملك فاروق عن عجز الجيش وعدم توافر الامكانات للمشاركة في حرب فلسطين، ورغم اعتراض رئيس الوزراء النقراشي باشا ورئيس الديوان ابراهم عبدالهادي باشا، فان الملك كان يردد أنه تحت ضغط الاخوان وأنه لا يستطيع التراجع عن قرار الجامعة العربية الدخول العسكري لافشال خطة التقسيم، كانت الجامعة في ذلك الوقت تحت نفوذ عزام باشا المقرب من كل من الملك والاخوان والواثق من النصر.
هزيمة العرب في فلسطين هي صناعة العاجز وليست من ثمرات المتآمر، وهي القصة التي لا يتعب الاخوان من تكرارها في تجاهل تام للواقع العربي الرث والمرير.
نعود الى الأريحية الخليجية نحو مصر للاسهام في انتشال الصرح المصري المرتبط بالاعتدال والواقعية التاريخية، والمحسن عند القدرة والمعطي عند الضرورة، والحسن المعشر الأليف مع الآ خرين، والمرتبط معنا في الخليج بعقد بناء يقوم على احترام متبادل.
وخطوة الخليج تنسجم مع اجتهادات دول مجلس التعاون في تشييد منظومة عاقلة ومعتدلة داخل المنطقة العربية مرتبطة مع مشروع العالم في تبادلية المنافع مع سياسة تحترم حق الشعوب في اختيار مستقبلها دون وشايات وتدخلات، مع الأمل في أن تنجح خارطة الطريق المصرية التي رسمها الحكم المؤقت في تحقيق الديموقراطية الوطنية التي يتعايش شعب مصر في أجوائها في تنافس من أجل رفعة شعب مصر وازدهاره واستقراره..
عبدالله بشارة
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق