جاسم بودي: اغتيال الكويت

لا بأس… تحملوني مجددا. لا تنظروا إلى الكلام الذي سأكتبه بعين أي نائب مزايد يريد فقط رفع الرواتب وإسقاط القروض ولا بعين وزير صاغر موافق همه كسب رضا النائب للبقاء في مقعده أو للتجديد.
لا بأس… تحملوني، لأن «كآبة المنظر» هي الحاضرة والمتسيدة في الآفاق التي التفت إليها بحثا عن أمل، فنحن نرتكب أكبر الآثام إن نظرنا إلى انفراجة بسيطة في العلاقة بين السلطتين على قاعدة التوزير أو التدوير أو تبديل وكلاء أو التعيين بينما المطلوب أن نرى انفراجة في اللون الأسود المظلم الذي يصبغ مستقبلنا.
قبل فترة كتبت عن تقرير صندوق النقد الدولي الذي توقع أن يستنفد الانفاق الحكومي كامل الإيرادات النفطية عام 2017 ما يعني ان الحكومة لن تكون قادرة على توفير اي جزء من الايرادات للأجيال القادمة. مع العلم ان التقرير تم إعداده عندما كان سعر برميل النفط اكثر من 123 دولارا وقبل تراجع أسعار النفط الى حدود التسعين دولارا كما هو الحال اليوم.
وسعر التعادل الذي بنى صندوق النقد الدولي تقريره على اساسه بلغ في ميزانية 2011 نحو 80 دولارا، لكنه لم يكن سعرا ثابتا أو دقيقا نظرا لما لحقه من تضخم في الزيادات والأجور، ولذلك يرى الاقتصاديون والمحللون انه ارتفع الى 90 دولارا (زيادة التكلفة والأجور 19 في المئة) بفعل تضخم المصروفات من حيث لم تحتسب نتيجة الضغط النيابي والتحرك الشعبي والخلافات السياسية وتفكك الحكومة وحروب «مسؤولين كبار» كان كل همهم ترتيب مستقبلهم في السلطة السياسية.
اليوم يرتفع سعر التعادل واقعيا الى 101 أو 103 دولارات للبرميل (بغض النظر عن الأسعار الأخرى الموجودة في الميزانية والمقدرة بين 65 و70 دولارا)، اي ان استكمال هبوط الأسعار حتى نهاية العام بوتيرة أسرع سيؤدي الى اختلال الميزان بشكل كبير لمصلحة العجز. مع ضرورة اخذ عاملين كبيرين في الاعتبار، الاول هو العامل الاوروبي حيث تنعكس أزمة إفلاس اليونان على عموم الدول الأوروبية حيث اقترضت اسبانيا مئة مليار دولار فيما الازمة الاقتصادية البرتغالية سائرة على خطى اليونان، وفي حال أدت الأزمة السياسية اليونانية الى الخروج من منطقة اليورو واضطرت البرتغال الى دق نفير الافلاس فعلى أسعار النفط السلام. والعامل الثاني من الصين حيث تتراجع كل مؤشرات التنمية هناك الى الدرجة التي بدأت السلطة المركزية والسلطات الجهوية اتخاذ اجراءات لشد الأحزمة وتحضير البلاد لمرحلة من التقشف… وهذا الأمر أيضا سينعكس على اسعار النفط بل وعلى بورصات العالم وأسواقها المالية.
طبعا، لم نر أو نسمع (الا لماما) تصريحات جدية حول هذا الموضوع من قبل السلطتين وغير السلطتين. تتراجع أسعار النفط ويستمر التصعيد النيابي الشعبي لإقرار الكوادر والزيادات هنا وهناك. تتراجع أسعار النفط ويستمر الجدل حول الوقوف للنشيد الوطني أو احترام العلم أو حصص الغالبية في الحكومة أو القرارات الإدارية التي تطول موظفين وتستثني غيرهم.
لم نر مثل هذه المواقف ولن نرى لأننا ببساطة شديدة نعيش في الكويت، حيث المستقبل السياسي يفصل حسب أجندات خاصة لكل طرف لا حسب المصلحة العامة للحاضر والمستقبل. قد يعتقد كل طرف أن برنامجه يحمل ملامح المصلحة العامة لكن المصلحة العامة لها هوية واضحة أكبر من التنظير والتكتيك والسفسطة السياسية.
أين هي المصلحة العامة في عدم الدعوة إلى جلسة خاصة نيابية تناقش فقط موضوع انخفاض أسعار النفط وتأثيرات كسر ميزان التعادل على الحاضر والمستقبل؟ أين هي المصلحة العامة في عدم عقد مؤتمرات وطنية واقتصادية لإشراك مختلف الطاقات المتخصصة لرسم خريطة طريق للخروج من الأزمة؟ وقبل ذلك كله أين كانت المصلحة العامة في توقيف كل المشاريع المنتجة والمربحة وفي مختلف القطاعات واللجوء الى التخوين والطعن في الذمم؟ وأين كانت المصلحة العامة في عدم محاسبة المسؤولين عن التعطيل؟ وأين هي المصلحة العامة في التركيز على النفط كمصدر وحيد للدخل (كما فعلنا أيام اللؤلؤ) وعدم خوض أي معركة نيابية أو حكومية أو شعبية لتوسيع المصادر وقيام صناعات ضخمة ومشاريع إنتاجية؟
لا بأس… تحملوني، فخاتمة الكلام تعني ان استمرار الوضع الحالي يؤدي إلى اغتيال وطن.. قد يعتبر كلامي تغريدا خارج السرب، لأني لا أتحدث عن تعديل قوانين لمزيد من أسلمة المسلمين، ولا أعرف اللغة الطائفية وتوابعها الشعبية، ولا علاقة لي بالعنصرية وعصبها المناطقي. أتحدث عن مجتمع على حافة الانهيار. عن إفلاس. عن اضطرار الى طلب مساعدات من أشقاء وأصدقاء. عن مجتمع لن يتحمل مرحلة عدم الرخاء.
أتحدث عن بلدي الذي لا بلد لي سواه… الكويت.

جاسم بودي
المصدر جريدة الراي

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.