لست أنا الوحيد الذي يقرأ تلك القائمة الواسعة من الاختيارات الشهية في أسماء المرشحين المتسابقين على تقديم الأفضل في مسابقة رمضانية في فنون الطبخ السياسي وفي البحث عن أفضل البهارات التي تضيف الى استطعام هذه القوائم.
ومع المسابقات في التقديم تتحرك غريزة التفوق في فن العرض الذي تحتويه القائمة، فمن المرشحين من يستعرض في قاعات الفنادق ذات الاتساع في تنظيم أنيق، والبعض يتحرك بين الدواوين في مسعى يكتفي فيه باستعراض أجندة يراها تليق بالمناسبة، والآخر يتحرك في تجمعات نسائية يلوح للنساء فيها عن عزمه على تحقيق المساواة وتجاوز عقدة الأولاد من أباء وافدين، وقليل يكتفي بالطلعة البهية في مناظرات تلفزيونية يكافح في مفرداته للاقناع، ويدور حول المحرجات من الاسئلة ويكرر ما نسمعه من معظم المرشحين.
ويبقى القليل من هؤلاء الذي يجمع ملفا فيه خيوط ترسم شيئا عن منظوره المستقبلي وفيه رؤى وطنية واقعية وقابلة للتطبيق.
وأقول إن تصوراتي من المتابعة بأن الأغلب يكرر المعروف الخالي من المثير وغير المستفز الذي لا يوحي بالخيال، ويعطي مؤشرا بأن ثقافة المرشح محدودة لا تنعش الوطن وأن غياب الاطلاع على ثقافات الامم بما فيها تجارب الشعوب في مسيرتها الديموقراطية تحرم الناخبين من اشارات مفيدة الى حقائق الحياة في مختلف القارات، كل ذلك بسبب محدودية الذخيرة الفكرية والثقافية التي يملكها المرشح الحالم.
لكننا أيضا مدركون للفرق الشاسع بين تجارب الآخرين في الديموقراطية وانجازاتهم في التعامل معها وبين تجارب الكويت وواقعها، ولا يفيد الكويت المرشحون الحالمون من أصحاب الأجندة الصاعقة، فليس من المصلحة ان تتورم قدرة الكويت على الهضم في هذه المرحلة عبر استعراضيات نعرف بأن الوقت لا يستوعبها، مثل الذين يرددون عن آمال الحكومة المنتخبة والأحزاب التي تشكلها، والحق ان هذا الحلم صار واقعا في العالم المتقدم والمتطور، لكنه لا يصلح مع الشبكة الكويتية السياسية التاريخية التي يتداخل فيها الناس بمختلف مشاربهم مع نظامهم السياسي التاريخي ويؤسسون في مجموعهم ثوابت الهوية الوطنية الكويتية.
وفي رأيي ان الأطروحات التي تأتي في هذا الوقت – مثل الحكومة المنتخبة – تؤذي العروق المتينة التي تحمي التوافق الوطني، وتفتح الباب الواسع الى التصدع السياسي والاجتماعي والفئوي وبحجم يزعج المزاج العام الكويتي بما فيه تعايش النظام السياسي مع العملية الديموقراطية، مثل هذه الأطروحات تشكل مؤذيات وتأتي بالانقسامات والتباعدات والتطاحن بين فئات المجتمع.
الكويت كيان صغير يستمد متانة البقاء من الاقتناع الشامل في الصيغة السياسية المطبقة، وفي تعزيز الوفاء لهذه الصيغة، وأي مساس بهذه الصيغة، في الفترة الراهنة، يجعل الكويت تقلع في سماء الفضاء المجهول، وأعتقد بأن مزاج الناخبين لا يتلاءم مع سحب الكويت الى مخاطر المجهول، لاسيما في هذه الظروف.
استمعت الى صيحات من ناخبين تتذمر من ممارسة شراء وبيع الأصوات مع تاكيدات بأن هناك عددا من الصناديق لها بريق الاغراء ولها سماسرة ولها مواقع تشبه مواقع الخطّابات من النساء اللاتي يمارسن التقريب للباحثين عن الزواج، ولا أستبعد هذا الاحتمال فقدرة الانسان على التكيف وابداعه في استخراج الوصفات المناسبة لا يمكن انكارها، لكن الناخب الكويتي متابع للقضايا السياسية المحلية لا تفوت عليه نوعية المرشحين ولياقتهم وأهليتهم، مهما كانت الكفاهيات التي يوظفها المرشحون.
ماهي الأطروحات التي تستهوي الناخب في الكويت، بدلا من الفلكلوريات التي تستعرض ثراء مستجد أو طموح مستهجن، يكرر الناس تدهور الخدمات والبطالة والبطء في التنفيذ والبيروقراطية والتكدس في بطالة ملتبسة، وغيرها من لائحة الشكوى المعروفة.
أعتقد ان مؤهلات الانطلاق متوافرة، لكن الاستعصاء في تحقيق هذه العملية التي يريدها الجميع، يعود الى مسببات بنيوية سياسية في اختيار رئيس الوزرء والى أعراف متوارثة في توزير المناصب السيادية والى الخوف من المجهول الذي قد يرافق القرارات الاستراتيجية المؤثرة، والى الارتياح من التأني بالاضافة الى عقدة تأمين دعم مجلس الأمة للقرارات الوزارية، فلا أغلبية برلمانية مضمومة، ولذلك فالحكومة تبحث عن أصدقاء يدعمون قراراتها، وهؤلاء يريدون المقابل بدعم عيني في خدمات تؤمن عودتهم وتبيض وجوههم عند الناخبين.
وفوق ذلك فان النواب يتحركون برغبة استرضاء الناخب ويتصرفون وفق الخيار الطائفي اذا كان ذلك يسترضي الناخب، في تجاهل تام للمصالح العليا للدولة.
وسط كل هذه التراكمات من التعقيدات ينصرف رئيس الوزراء بمراعاة الوضع الذي يفرض عليه ان يتحرك وسط تيارات برلمانية متعارضة وأمزجة غير مضمونة، وعطاءات محرجة..
رئيس الوزراء الحالي سمو الشيخ جابر المبارك رجل يحب ان يأخذ وقته ويحرص على الثوب الموروث، ولا يرغب في تلويثه، هنا تصدر الأصوات بضرورة ان يسرع في قراراته وأن يشحنها بالسخونة وأن توجد قيادته وبانتظام في المرافق السياسية، مجلس الأمة، والاعلام، والحوارات واللقاءات الاستشارية، وبهذا يتحول الرئيس الى رئيس مرئي ومستمع وموجه، هذه بعض عناصر القيادة في الدولة الحديثة.
انحسرت الهواجس عن المتاعب الأمنية، فالكويت، منذ التحرير، تتحصن بآليات فاعلة تؤمن لها استمرار السيادة والاستقلال والسلامة الترابية، وهي البنود التي يلتقى حولها الاجماع ويترسخ مع الاستمرار ومع الألفة والارتياح الشعبي لهذه الآليات، وليس هناك مجال للمزايدات الانتخابية، ظهر الكويت الدائم مجلس التعاون بتآلفات واتفاقيات عالمية وتوافقات عربية.
وبعد ذلك، فالناخب يظل باحثا عن المرشح الذي يستحق صوته، المرشح الذي له غطاء فكري مجتهد في برنامج عمل يتناول حقائق الكويت في الانماء والجدية والفاعلية في البيروقراطية والاستثمار المثمر والتعليم العصري وبناء دولة حديثة في البنية التحتية وفي تنويع مصادر الدخل، وفي تشكيلات من المنظمات الاهلية الفاعلة، مثل ذلك لا يأتي من مرشحين عاديين وانما من أصحاب الخيال الخصب المتدفق باقتراحات ومبادرات ومن مرشحي خدمة الوطن وليس من المدمنين على الأضواء والبهرجة.
هل معقول ان تنتشر في الكويت مافيا شراء الأصوات وتنقض على مقارها أجهزة أمن الدولة وتصطاد مخططين وسماسرة ومزورين وسيدات يلعبن دور الوسيط؟ وما هو السحر المتخبئ في عظام التمثيل البرلماني الذي يدعومن لا يحتاج الى المال ليدفع ويؤسس كارتيل Cartel لادارة الحملة قائمة على الغش والاغراء.
نستذكر أياما كانت فيها نوعية المرشحين من أصحاب الاعتزاز والأنفة جاءوا للمشاركة في بناء الكويت، بلا جوائز، ونشهد الآن الانحدار ليس في طقم المرشحين في المضمون الفكري والاستنارة فقط وانما فوق ذلك توجد لائحة تفتقر الى الضمير الوطني والحس الاجتماعي والنظافة الأخلاقية.
ومع ذلك تبقى في ساحة الترشيحات الكثير من المشهيات من أطباق ما زالت تحمل نكهة الخير..
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق