عبدالله بشارة: غسان التويني في ديوان الكبار

جاء المرحوم غسان التويني الى الأمم المتحدة مندوبا وممثلا لجمهورية لبنان في عام 1977، مبتعدا عن حروب لبنان التي أشعلتها طوائف السياسيين في لبنان، الأرض الجميلة والدولة التعسة، وهاربا من مدارس النفاق والتلون في ممارسة السياسة بين الطوائف، ومتحدثا بصراحة عن بلد لا صراحة فيه، وواضحا في مطالبه حول بلد لا يعيش الوضوح فيه، ومسجلا توقعات وتمنيات لمستقبل بلد توطن اليأس فيه وفي أهله.
وجد الصديق غسان التويني في ميدان الأمم المتحدة ما كان يريده لأجل لبنان، فالأمم المتحدة بقاعاتها ووفودها وموظفيها قبيلة واحدة ليس فيها هموم الطوائف في لبنان، ولا صراعات الاقطاعيين محترفي السياسة في تجمعات لبنان، فالساحة في الأمم المتحدة مفتوحة لكل من له لسان ولكل من له بيان ولكل شاك بلا قبضايات تهدد ولا عصابات تختطف ولا خويا يغتالون الخصوم.
كنت أستمع اليه في خطاباته حاملا مأمورية انسانية لكل جريح ولكل أسير ولكل من يعاني من المظلومية ومن غياب العدالة.
كنت أمثل الكويت في مجلس الأمن عندما تعرض السفير الاسرائيلي في لندن لهجوم من جماعة أبونضال، ولم يترك رئيس الوزراء مناحيم بيجن تلك الفرصة التي انتهزها في احتلال جنوب لبنان وتركز النشاط في مجلس الأمن على سحب القوات الاسرائيلية الى مواقعها، ووقف اطلاق النار.
هنا جاءت صرخات غسان التويني مستغيثا طالبا النجدة، ومقنعا في طلبه وواقعيا في توقعاته، وهنا عدوان وقع على لبنان لابد من التصدي له.
كان دوري مساعدة لبنان على استصدار قرار لسحب القوات المعتدية ولأنني ممثل العرب في مجلس الأمن فلا مفر من أخذ المبادرة والدفاع عن لبنان داخل مداولات المجلس.
كان غسان التويني يطلب شيئا أكثر، متمثلا في قوات حفظ سلام وليس مراقبين فقط، ولم يكن الظرف يسعفه، فالدولة اللبنانية ضعيفة في قدرتها على اتخاذ قرار يثير الطوائف الأخرى، وكان الفلسطينيون من أهل المنظمة وهم مسلحون بحجة اتفاقية القاهرة لعام 1969.
كان مندوب المنظمة في الأمم المتحدة المرحوم زهدي الطرزي يلاحقني بأوراق عن تلك الاتفاقية، وكان يرسم الكمين لأعضاء المجلس، من أجل الاستماع الى اعتراضاته، وكان مجلس الأمن مع لبنان، وليس مع غيره، ومع التويني في سحب القوات وليس معه في قوات حفظ السلام.
كان غسان التويني سياسيا له رادار خاص في معرفة الممكن وابعاد المستحيل، كان يصرخ للمستحيل ثم يقنع بالممكن وكانت وعوده الى مجلس الأمن أكبر من قدرة جمهورية لبنان، كان المجلس يصر على ارسال قوات من الجيش اللبناني الى الجنوب، ويتعهد غسان التويني مع هذا الاصرار ويذهب الى لبنان ويعود الى نيويورك مبلغا بأن الجيش سيدخل الجنوب، لكن الجيش لم يدخل.
كان غسان مثل غيره، من ضحايا المرض اللبناني، ضخامة الأحلام وبلاغة الكلام وندرة الالتزام، وليس من السهل ان يدافع أي انسان عن حالة لبنان في تلك الايام، لكن المرحوم غسان التويني أبدع في صدقه وفي تقديم المأمورية الانسانية التي آمن بها، لأنه كان أكثر وفاء والتزاما بشروطها من الآخرين بمن فيهم أعضاء مجلس الأمن.
وبصراحة نال غسان التويني احترام الجميع ومحبة الجميع لأنه يبحث عن المعرفة ويقدر العلم ويثمن الثقافة ويسعى للوضوح ويتحدث كانسان متعاليا عن الصغائر مرتفعا عن تفاهات السياسيين، كريما في عطائه وسخيا في مشاعره، كان أكبر من البلد الذي يمثله، وأعلى شأنا من خصومه في داخل المستنقع السياسي اللبناني.
كان يرسل كل شاردة وواردة الى الرئيس اللبناني الياس سركيس الذي تناغم معه وفتح معه قناة خاصة لابد منها للابتعاد عن المزايدات السياسية الطائفية اللبنانية، وكان يقدم الى المجتمع الدولي صورة نقية وجذابة فيها الكثير من الروحانية عن لبنان، ونحن نعلم بأنها من رسم مثالياته ولم تكن تلك الصورة هي لبنان.
وانما كانت هي مختصر لصورة غسان تويني وزوجته ومفاهيمه وفلسفته، وتجاوز القبيح من واقع لبنان الى لوحة زاهية من الفن العالي الذي ابتكره غسان.
كان يصرخ من حروب الآخرين على أرض لبنان، مبرئا اللبنانيين وزعمائهم وقبائلهم وطوائفهم وتربصاتهم وهم الذين أتوا بالرفاق الآخرين.
وخرج الجيش الاسرائيلي مع القرار المشهور رقم 425 الذي صاغته أربع جهات، لبنانية، أمريكية، كويتية، والسكرتير العام للأمم المتحدة، وطلع علينا الميجور سعد حداد وجيشه من الجنوب من حلفاء اسرائيل، وصار الميجور سعد حداد عقدة لبنانية محرجة، وعرقلة اسرائيلية، وسخافة اعلامية لمجلس الأمن، ولم تنته الا بعد ان قام الجنرال شارون بغزو لبنان في عام 1982، واخراج المنظمة وقواتها مع ابعاد عرفات الى شمال أفريقيا.
أعطى غسان التويني خلال عمله في الأمم المتحدة كل ما يملك من ثقافة وعلم وصداقات وبلاغة ومال وطرائف، كلها سخرها من أجل لبنان بمساعدة السيدة زوجته الحورية الآسرة نادية، كان غسان المعبر الأنيق والفكر اللامع للوصول الى لبنان، وفي هذا المجال، لجأ الى خزينته من الأصدقاء وأصحاب النفوذ في واشنطن وباريس لمؤازرته في مهمة اشهار براءة لبنان مما يدور في داخله، وهي رسالة آمن بها المرحوم حتى يومنا هذا، ونجح الى حد كبير في تسويقها لاسيما في أوساط باريس.
كان غسان تويني الصحافي والناشر حاضرا في كل مسلك وفي كل مفاوضات وفي كل الجلسات، كنا نتفاوض على مشروع قرار يقدم الى المجلس، وكان يسرب كل الخطوات وبما يتلاءم ومصالح لبنان، ويدون كل شيء، ما يقوله السفراء وما يتعرض له من ضغوط، وما يتوقعه السكرتير العام، وما يدور في المجموعة العربية عن لبنان وعن غيرها.
كنت أخاف عليه من كثرة تردده على أبواب مجلس الأمن، من حالة اعياء قد تصيب المجلس من لبنان ومن مسخرة السياسيين فيه، وخطورة ذلك على القضية كلها، كان يمهد لكل ذلك في اتصالاته مع وفدي أمريكا وفرنسا، واذا ما تعقدت اتصالاته يلجأ الى السكرتير العام السيد فالدهايم.
لا يتوقف ولا يتضايق مدفوعا القناعة في رسالته، أتى من بلد الطوائف ليقدم الى الأمم المتحدة مشروعا بلا طوائف، أتى من بلد التعصبات والتربصات، ليعلن أن أمن العالم وسلامته هي الوحدة الانسانية في علو وتسام.
عرفت المرحوم غسان التويني في الستينيات في ترددي على لبنان، وجاء الى الكويت في دعوة لالقاء محاضرة مع وفد متكامل من جريدة النهار، وكانت تلك الزيارة القاعدة التي رسخت علاقتي معه ومع عائلته في نيويورك عندما كانت الكويت عضوا في مجلس الأمن ولبنان يتعرض الى عدوان مستمر، وآخر مرة التقيت به كان خلال زيارته الى الكويت منذ ثلاث سنوات في مناسبة اعلامية ترافقه زوجته شادية الخازن التي ظلت متفانية لدعم مسيرته، كان ما زال متفائلا مع انحسار الوهج وارادة لا تضعف لايمانه العميق بالقيم العالية، مستذكرين وقفته أمام جنازة ابنه أبرز ضحايا الارهاب الطائفي، داعيا الى الترفع عن الانتقام ونشر التسامح، وفي تلك المأساة تأكد للجميع ما نعرفه عنه بأنه عملاق نادر يقترب من الأساطير.

بقلم عبدالله بشارة
رئيس المركز الدبلوماسي للدراسات
المصدر جريدة الوطن

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.