كالمعتاد في كل موسم انتخابي، ومنذ عقود، تتجدد فيها أحداث الجرائم الانتخابية المختلفة والحديث عنها، وبصفة خاصة المتعلقة بالمال السياسي من شراء أصوات وتقديم منافع شخصية للناخبين، ودعم مرشحين من متنفذين وأصحاب مصالح وأهل السلطة، ويرافق ذلك مقالات نارية من بعض الكتاب الذين يولولون فيها على أحوال الساحة السياسية، إضافة إلى تصريحات عالية النبرة من “زعماء” سياسيين ونواب سابقين ومرشحين يجلجلون من خلالها المكرفونات بشجب انتشار المال السياسي في العملية الانتخابية.
ويتكرر نفس السيناريو، ونسمع من الطبقة السياسية المهيمنة على الساحة نفس عبارات الاستنكار والنحيب على هذه الحالة، رغم أنهم جميعاً يعلمون أن حلها بسيط، عبر قانون موجود في كل الديمقراطيات المحترمة في العالم، بتشريع قانون مراقبة الإنفاق الانتخابي وتحديد سقفه وكذلك بتفعيل قانون كشف الذمة المالية، وهما أمران بسيطان وكان يمكن تطبيقهما منذ زمن طويل، ولكن عند الفعل يختفي الجميع وينكثون بوعودهم لأنهم أو لأن المحسوبين عليهم يستخدمون المال بصورة ما كميزة في العمل السياسي.
وما أذكره هنا ليس عن سمع أو نقل عن آخرين، بل عن تجربة شخصية، ففي انتخابات 2008 البرلمانية، ومع انتشار قضية شراء الأصوات وبعض الممارسات السلبية الانتخابية، تبنى الصديق العزيز والناشط في العمل العام والسياسي الأخ مشاري الرشيد فكرة أن نطرح على المرشحين الذين ندعمهم في نظام (4-5) فكرة تبني اقتراح قانون تحديد الإنفاق الانتخابي والرقابة عليه من لجنة عليا للانتخابات لتحقيق تكافؤ الفرص بين المرشحين ومحاربة شراء الأصوات، وهي فكرة ممتازة انضممت إليه مع مجموعة من الزملاء وعرضناها على مرشحنا الأول في الدائرة الذي وعد بتبنيها مع مرشحين آخرين.
وبعد إجراء الانتخابات وفوز ذلك المرشح مع مجموعة من المرشحين وعدم نجاح الآخرين، راجعنا نائبنا عدة مرات لتبني قانون تحديد الإنفاق الانتخابي والرقابة عليه، فما كان منه إلا إعطاؤنا الوعد تلو الآخر دون التنفيذ كما فعل الآخرون ممن وعدونا وأصبحوا نواباً، ونكث نائبنا الذي دعمناه بوعده وهو الآن أحد مقاطعي الانتخابات ويعرض خطب الإصلاح الرنانة ويدين بقلب حزين ما يجري من تدخل المال في العملية الانتخابية وانتشاره بهذا الشكل المخرب للنفوس والمجتمع!
لا شك إن المال السياسي وعلاقته بالعملية الانتخابية والعمل البرلماني تتطلب إرادة صادقة من السلطة والطبقة السياسية لمحاربته وتصفيته، وليس لاستغلال انتهازي لهذه القضية لمحاربة الخصوم وتصفيتهم لأن شراء قرار الناس السياسي وتخريب الذمم يسقطان الدول بعد أن ينخراها من الداخل ويدمراها تماماً، ومن يقوم بهذه الممارسات عبر شراء الأصوات أو عبر تغليف تلك الممارسات بالتبرع أو عمل الخير بغرض الحصول على ميزة سياسية، مجرم وخائن للوطن يستحق أقسى العقوبات، ومن يتلاعب بصور عديدة في استخدم المال السياسي يعزز استخدام الأغلبية من الطبقة السياسية المال السياسي بطرق مختلفة، بينما تشجب شراء الأصوات التي تعتبر الشكل الفج لتلك الممارسة الجرمية في حين هو يقوم بنفس الجريمة بشكل آخر، وهنا لا بد أن نشيد بجهود وزارة الداخلية في تتبع الجرائم الانتخابية، ولكن في نفس الوقت نؤكد أن المعالجة الحقيقية لتخريب المجتمع يجب أن تكون عبر لجنة وطنية عليا للانتخابات وقانون لمراقبة الإنفاق الانتخابي يُمكن من متابعة حسابات المرشحين ووضع عقوبات رادعة للتلاعب أو التهرب من القانون، وتفعيل قانون كشف الذمة المالية، وإذا كان المرشحون الذين يشجبون اليوم عمليات شراء الأصوات صادقين فيجب أن يكون أول أعمال من ينجح منهم في البرلمان المقبل إنجاز قانون اللجنة الوطنية للانتخابات وحزمة القوانين المرافقة لها، وأهمها الرقابة على الإنفاق الانتخابي.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق