في الذكرى الخامسة لرحيل الاقتصادي الكويتي الكبير جاسم محمد البحر، الذي عرف عنه أنه صانع السوق، حيث كانت مجموعة شركاته تؤثر تأثيراً فاعلاً في نشاط سوق الكويت للأوراق المالية، يعن لي أن أطل اطلالة قصيرة على رحلة كفاحه الطويلة من أجل اقتصاد وطنه والتي تميزت بالاستقامة والشرف. عرفت جاسم البحر عند قدومي الى الكويت في سنة 1984 عندما كان نائباً لرئيس مجلس ادارة الشركة الدولية الكويتية للاستثمار، ولازمته من وقتها حتى رحيله، وكان آخر حديث لنا يوم 30 يوليو سنة 2008 أي قبل وفاته بيوم واحد، حيث كنت في لندن في طريقي الى الولايات المتحدة الاميركية وكان هو في روما في طريقه الى البرتغال، فطلبني هاتفياً ليعاتبنى لماذا أخلفت موعدك هذا العام، فقد اعتدنا منذ سنة 1993 على ان نقضي الصيف معاً في البرتغال، ذلك المصيف الجميل الذي أقام فيه جاسم البحر منتجعاً يعد واحداً من أرقى منتجعات العالم، ويكفي أن نعلم أن شركة شيراتون العالمية تديره وتعتبره درة مجموعتها الفندقية الفاخرة، وعندما دعاني الى النزول في الفندق أعجبت بالمكان الساحر وحرصت على أن يكون لي مقرا دائما في البرتغال، اتردد عليه كل عام سواء في الفيلات التي انشأها أو المصايف التي أقامها وأخيراً في الشقق الفندقية التي أقامها «الشيراتون» داخل المنتجع. وقد أغراني على التمسك بهذا المنتجع الموقع الفريد الذي يتميز به على قمة جبل يحتضنه المحيط، وتعلو ذلك الجبل الخضرة وأشجار الصنوبر الباسقة، فاذا جلست في الحديقة ترى منظراً بديعاً يجمع بين الخضرة النضرة، فالنباتات من حولك وزرقة مياه المحيط التي أمامك، والتي تنزل اليها بمصعد خاص، هو
ما جذبني الى المكان وربطني فيه زهاء عشرين عاماً.
وبعد أن تعرفت على جاسم البحر بوقت قصير اعتلى منصب رئيس مجلس ادارة الشركة ذاتها، ومنذ يومها اقتربنا كثيراً من بعضنا البعض، فلمست فيه رجلاً يتميز بخصال نادرة، فهو مقاتل شريف لا يستسلم ابداً، ولكنه في الوقت ذاته عف اللسان ملتزم بأحكام القانون، فلم اره يوماً يحتد على أحد العاملين لديه، وهم كثر، كما أنه لم يكن يميل الى القسوة، فلم اسمع أنه انهى خدمات واحد ممن عملوا معه طوال هذه المدة الطويلة التي عرفته فيها رغم ما كانوا يقعون فيه بطبيعة الحال من اخطاء، ولكنه كان يعذر المخطئ مادام واثقاً من حسن نيته، وكان في الوقت ذاته يتميز ببصر ثاقب، فهو يعلم كل كبيرة وصغيرة في الشركات التي يديرها ويشرف عليها، فلا يستطيع أقرب المقربين اليه أن يغيّر رأيه في عامل واحد ممن يعملون معه لأنه يعرف عن هذا العامل ربما أكثر مما يعرفه المقربون اليه، فكان يكتفي بالابتسام أو بهزة من الرأس، ولكن حكمه على الشخص الكفء لا يتغير مادام أداؤه لم يتغير. كان من أهم مزاياه احترامه للقانون الذي يبلغ مبلغ التقديس، فكان كلما صادفته مشكلة يستطلع رأيي فيها، ورغم احساسي بالاعتبارات التي تحيط بها والتي يزنها بميزان من ذهب، كان يقول لي بكل ببساطة ما هو رأي القانون؟ فاذا قلت له إن القانون يرى كذا، فانه لا يتردد في تنفيذ ذلك الرأي مهما أحاطت به من ظروف ومهما ترتب عليه من نتائج. توثقت صلتي به على وجه الخصوص في قضية كبرى كانت تتعلق بقرض مشترك مقدم من حوالي خمسة عشر بنكاً وشركة استثمار من بينها الشركة الدولية الكويتية للاستثمار، ولأن المدين كانت له صلات قوية ومتعددة لأنه رجل اجتماعي من الطراز الأول، فقد نجح في اقناع غالبية البنوك الدائنة بتسوية اعتبرها جاسم البحر مجحفة بحقوق البنوك الدائنة.
وللحديث بقية.
المستشار عادل بطرس
a.botrosfarag@gmail.com
المصدر جريدة القبس
قم بكتابة اول تعليق