جاسم بودي: كلمة تأسيسية

مميزة، مباشرة، صادقة، واضحة واستثنائية كانت كلمة صاحب السمو الأمير في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك.
استثنائية لانها تشبه الكويت. عميقة في رسالتها. قوية في تسامحها. ملفتة في تواضع مفرداتها ووضوح معانيها. فريدة في دعوة الحاكم جميع النخب السياسية إلى رفع كل المطالب واعتماد مختلف أنواع الحراك تحت سقف القانون والدستور، وقد تكون الكويت الدولة الوحيدة في العالم العربي التي يطالب فيها الحاكم بأقصى الممارسات الديموقراطية إنما في إطار التزام الثوابت والقيم، لا لشيء، إلا لان الخروج على هذه الثوابت يسيء إلى المسيرة الديموقراطية نفسها وإلى الحراك السياسي نفسه وإلى المعارضين انفسهم.
يقرن صاحب السمو القول بالفعل. يترجم الالتزام بكل ما تقتضيه معاني الترجمة، ففي شهر الرحمة والمغفرة يصفح الوالد عن كل من اساء إلى الذات الأميرية وصدرت في حقهم احكام نهائية. يعلم ان ابناءه أولى بتسامحه، ويدرك بعين الكبير ان في العفو قوة وفي التسامي عبرة، ويعلم بخبرته السياسية العريقة والتاريخية ان طريق العمل العام محفوف بالاشواك، وان السير عليه يدخل الجميع في دهاليز التجربة، وان حسن النيات مقدم على سوء الظن، وان من يعمل يخطئ ومن لا يعمل لا يخطئ.
ويربط الأمير بين مبادرته الكريمة وبين حرصه على دور الشباب ومستقبل الشباب، وليس سراً ان سموه يتابع شخصيا تنفيذ ما توصلت إليه المجاميع الشبابية في مؤتمرهم الذي عقد برعايته، مقدما من خلال هذه المتابعة الحثيثة درساً لمن لا يرى في جيل الشباب سوى وقود لمعاركه السياسية ولمن يعتبر انه يؤازرهم من خلال حشدهم في الشوارع واستخدامهم لخدمة قضاياه لا قضاياهم. كان سموه واضحاً في اعتبار الشباب قادة المستقبل لا «هتيفة» لبعض السياسيين والمسؤولين الحاليين، مؤكداً ضرورة «اشراكهم في صنع القرار وتمكينهم من المساهمة في تحمل المسؤولية الوطنية بالمشاركة في مسيرة التنمية المستدامة لبناء كويت الحاضر والمستقبل».
ليس بالشعارات وحدها تتحقق مطالب الشباب في مفهوم صاحب السمو بل بالمشاركة في التنمية واطلاق عجلة المشاريع، وهو الأمر الذي جمدته الصراعات السياسية والتصعيد المستمر، ولذلك اطلق دعوة لبحث كل القضايا الداخلية «بموضوعية ودون تجريح أو اتهام عن طريق تبادل الرأي والحوار الهادئ والهادف للوصول لأفضل الحلول»، وهنا يتحدث الأمير ضمنا عما يتحدث به الكثيرون صراحة، فالممارسة السياسية الكويتية انتقلت لدى البعض من التحاور إلى التجريح، ومن تبادل الرأي إلى تبادل الاتهامات، ومن النقاش إلى التخوين. وهذا البعض الذي سن سنة خبيثة في العمل السياسي لم تألفها الكويت من قبل يدفع هو ثمن تكريس نهج الاتهام والتخوين والفرز والتصنيف، وسمعنا وسمع كثيرون كيف توالت عبارات الاتهام بين من يفترض انهم ابناء قضية واحدة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الذين امتهنوا لعبة رفض كل شيء والتقليل من شأنه خصوصا إذا تعلق الأمر بزملاء لهم يتعرضون لضغوط وعقوبات، فهم ينتقدون هذه المبادرة أو تلك وهم جالسون في منازلهم أو المقاهي وعلى مقاعدهم الوثيرة بينما غيرهم يدفع الثمن، بل ان بعض هؤلاء المنتقدين والرافضين كان ممن وقع سابقاً على وثيقة الاسترحام التي رفعت لصاحب السمو حين كان متهما أو معرضا للاتهام بقضايا مماثلة.
من حرصه الدائم على الوحدة الوطنية، وخوفه الدائم من انعكاسات تطورات المنطقة على الكويت، مرورا بتذكيره المستمر بضرورة نبذ التعصب والتطرف والانغلاق… يرسم صاحب السمو خريطة طريق آمنة لمواجهة العواصف وعبورها اجواءنا الاقليمية بأقل قدر من الخسائر.
ومن التشديد على التمسك بالديموقراطية وتهنئة الكويت والكويتيين على نجاح الاستحقاق الانتخابي على مختلف المستويات، إلى الاشادة بوعي الكويتيين الذين اعطوا الخارج (وبعض الداخل) دروساً في ممارسة حقوقهم وواجباتهم… يؤكد صاحب السمو ان الديموقراطية والحريات والتعددية والدستور خيارات لا عودة عنها مهما اشتدت الضغوط وارهقتنا التجارب.
ومن دعوته المولى جل جلاله بان يغسل قلوبنا من كل غل، وتمنياته بان يفتح الجميع صفحة جديدة، وصولاً إلى تصحيح المسار السياسي واستعادته من منطق التجريح والتخوين والاتهام إلى منطق الحوار والنقاش الموضوعي والحراك الهادئ الهادف… يعبر سمو الأمير عن كل كويتي مهما كان انتماؤه، ويتحدث بلسان كل كويتي إلى أي تيار أو توجه أو فكر انتمى.
كلمة صاحب السمو الأمير في العشر الأواخر تعتبر كلمة تأسيسية لمرحلة مقبلة يفترض ان تنقل المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي الكويتي إلى مرحلة أخرى اللهم الا إذا اصر بعضهم على المضي في المسار الذي اختاره (أو اختاره آخرون له من دون ان يدري)… لكن تجارب الأشهر التي مضت اثبتت ان الوعي السياسي الكويتي قادر على وضع الأمور في احجامها الحقيقية لا الوهمية، وان الكويتيين اختاروا الانحياز إلى دولة القانون والمؤسسات لمعالجة التقصير الحكومي والفساد والهدر وسوء الإدارة والمخالفات والتجاوزات ورفضوا الانحياز إلى دويلات العصبيات والفوضى والانقسام وتجاوز القانون.
مرة أخرى، يتحدث الشيخ صباح الأحمد مع الكويتيين كوالد وكبير قبل ان يتحدث كقائد وأمير. يفتح قلبه قبل ابوابه للجميع، ويتمسك بوحدة سواعد الكويتيين للعبور إلى مستقبل افضل. يقود السفينة بالحكمة والحلم كي تصل إلى موانئ الازدهار والتقدم بسلام، ويتطلع برؤية واثقة إلى غد أفضل تشرق فيه الشمس كل يوم على كويت مستقرة، آمنة، متطورة وحديثة وقادرة على ايصال رسالتها إلى الجميع وتحديدا اجيالها القادمة. هذه الشمس ثابتة والعواصف العابرة… عابرة.

جاسم بودي
المصدر جريدة الراي

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.