نحن مازلنا في المقاييس التاريخية في مراحل النمو الأولى باتجاه المدنية بشكل عام، فأغلب محددات تفكيرنا ومنظورنا إلى الحياة مازال عشائرياً بصورة أو بأخرى، فحتى التنظيمات التقدمية والليبرالية العربية لا تخلو من تقديس الفرد والبحث اللاواعي عن بديل لشيخ القبيلة أو الدين ليتم إيكال “التفكير” إليه.
“إحنا مو كفو ديمقراطية”… جملة تتكرر للأسف في أغلب الحوارات السياسية هذه الأيام، وعندما تسأل عن أساس هذا الاستنتاج المزعج تسمع الكثير من المعطيات المفهومة؛ كتردي لغة الحوار والفساد، وضياع هيبة القانون، وانتشار “الواسطة”، وغياب كل مؤسسات الدولة المدنية وأدواتها ووسائل الرقابة الفاعلة. وفي حين يجد البعض الآخر في خيارات الشعب وتشكيلة المجالس المتعاقبة نتاج الفرعيات والتصفيات الفئوية والطائفية مثالاً صارخاً على غياب مفهوم المواطنة والمقاومة “الشعبية” للتطور الديمقراطي السليم، يقدم آخرون التناقضات والفراغات القانونية والدستورية دليلا يسند استنتاجهم بعدم أهليتنا للديمقراطية. ويذهب البعض إلى ما هو أبعد من ذلك وهو الانفصام العام في الشخصية بين الممارسة الديمقراطية على الصعيدين السياسي والاجتماعي من جهة، والقيم الاجتماعية السائدة والقيم الديمقراطية الحقيقية من جهة أخرى، ولا يقتصر هذا الاستنتاج على الكويت بل هو سائد في كل أرجاء الوطن العربي، وحتى بين من يعتبرون مثقفين وطليعة المجتمعات العربية. وهذه المعطيات في مجملها صحيحة كظواهر غير صحية وغير ديمقراطية، ولكنها غير كافية ولا تسند استنتاج عدم الأهلية، ففي المقاييس التاريخية نحن مازلنا في مراحل النمو الأولى باتجاه المدنية بشكل عام، فأغلب محددات تفكيرنا ومنظورنا إلى الحياة مازال عشائرياً بصورة أو بأخرى، فحتى التنظيمات التقدمية والليبرالية العربية لا تخلو من تقديس الفرد والبحث اللاواعي عن بديل لشيخ القبيلة أو الدين ليتم إيكال “التفكير” إليه. والخروج من هذه المرحلة ليس بالعملية السهلة أو السلسة، خصوصا في ظل غياب سياسة تعليمية وتربوية واضحة تصب في هذا الاتجاه؛ لذا فمن المتوقع جدا بل من الطبيعي أن نجد التناقضات والتراجعات في كل صُعد الممارسة الديمقراطية. كما أن البديل ليس بالضرورة أفضل بل أسوأ، فكبرى سرقات المال العام وانتهاكات حقوق الإنسان كانت في غياب الحياة البرلمانية وحرية الإعلام كأهم أدوات النظام الديمقراطي السليم، والذي هو بحد ذاته نظام حيوي ومتجدد ومختلف من بيئة لأخرى؛ لذا يلزمنا الكثير من الوقت والتجارب والبحث والتعلم بالتجربة والخطأ، لنصل إلى المعادلة المناسبة لبيئتنا وهويتنا واحتياجاتنا الخاصة، كما يلزمنا مجهود مضاعف للحاق بالدول المتطورة التي سبقتنا في هذا المجال، وتفرض على الساحة مفاهيم وقيماً جديدة يوميا تحتاج منا إلى التحليل النقدي والأخلاقي لنعرف الغثّ من السمين. فنحن كمن يتوقع من طفل لم يكمل السّنة من العمر أن يشارك في بطولة الأولمبياد في العدو، لا يمكن أن نعدو ما لم نزحف ونترنح ونسقط ونتوقف أحيانا ونجرح أنفسنا أحيانا أخرى، يجب أن نربأ بمجتمعنا وأنفسنا ونتوقع المعقول أثناء العمل الحثيث من أجل إسراع عملية التعلم والتطور على أسس صحية وسليمة… فقط بمزيد من الممارسة الديمقراطة نصبح أكفاء لها!
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق