الحياة كقطار سرعته تتجاوز سرعة الصوت، محطاته منتشرة في كل أنحاء الكون، توقفه لا يتجاوز الثواني، يترجل البعض ويصعد البعض الآخر، وعلى مدى هذه الرحلة تمر علينا شخصيات يترك بعضها أثراً ما في حياتنا إيجاباً كان أم سلباً، بينما يمر البعض دون أن يترك أثراً.
التقيت في هذا القطار بشخصيات كثيرة تصعب أحياناً الإحاطة بها أو تذكرها، ولكن بعضها يصعب تجاوزه، منها على سبيل المثال سماحة السيد محمد باقر الحكيم، رحمه الله، وكان وقتها يتولى رئاسة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق قبل سقوط نظام الطاغية صدام حسين، فقد كلفت بمرافقة سماحته أثناء زيارته للبلاد في الفترة من 19-30 ديسمبر عام 1999، وذلك جرياً على عادته في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك من كل عام.
يتميز سماحة السيد محمد باقر الحكيم، رحمه الله، بطيب العشرة والتواضع والعلم الغزيرالذي يتيح لمن يرافقه أن ينهل منه، فكانت جولاتنا تبدأ من بعد صلاة التراويح بزيارة بعض الدواوين حتى موعد صلاة الفجر التي كنا أحياناً نؤديها في بعض مساجد البلاد، أما في الصباح فقد كانت الزيارات تقتصر على المقابلات الرسمية.
لاحظت في الأيام الأولى من مرافقتي لسماحته أنه في كل مرة يركب السيارة يبدأ بالدعاء والبكاء بصمت رهيب يستغرق ذلك بعض الثواني، ثم يمسح على وجهه، ونبدأ بتبادل الحديث الذي كان يتميز بالود والرقي، وقد نشأت بيننا ألفة طيبة.
أثار هذا الدعاء والبكاء فضولي فسألت سماحته عن ماهيته وسر ذلك البكاء، فأخرج رحمه الله تنهيدة من الأعماق، وتحدث بصوت يشوبه الحزن والألم، بأن لديه إحساساً وشعوراً عميقاً بأن موته سيكون بتفجير سيارة مفخخة؛ لذلك فهو يدعو الخالق جلت قدرته أن يلطف به في قضائه، وساد بعد ذلك صمت عميق فأدرك رحمه الله ما كنت أفكر فيه، فالتفت إلي وقال مبتسماً “أخي بو عبدالله لا تخاف ما راح تكون معاي بالسيارة”. رحمك الله سماحة السيد وأسكنك فسيح جنانه.
ومن الشخصيات التي التقيتها في ذلك القطار الدكتور جيليو جيليف رئيس جمهورية بلغاريا الذي كان أول رئيس منتخب برلمانياً للفترة من 1990-1992، وأعيد انتخابه للفترة الثانية من 1992-1997 شعبياً، وقد تشرفت بتقديم أوراق اعتمادي لفخامته سفيراً لبلدي في ذلك البلد الصديق عام 1992.
يتميز د. جيليف بالتواضع الجم الذي يشعرك وكأنه صديق قديم تعرفه منذ زمان طويل، إضافة إلى فلسفته في الحياة، فقد استطاع أن ينقل بلده من النظام الشمولي الذي استمر عقوداً إلى النظام الرأسمالي بدون ضجة أمنية أو إعلامية، فقد كان العبء مضاعفاً عليه وفي فترة محرجة؛ بما تحمله من كم هائل من التحدي الاجتماعي والسياسي والثقافي والعلاقات الدولية.
كان لفخامته موقف مشرف وشجاع تجاه الغزو والاحتلال الذي تعرض له بلدنا الغالي في الثاني من أغسطس عام 1990، فقد أصدر أمراً باعتبار المواطنين الكويتيين الموجودين في بلغاريا ضيوفاً وأعفاهم من تجديد تأشيرات الدخول والإقامة، كما منح قوات التحالف الحق في استخدام الأجواء والمطارات البلغارية، وذلك أثناء الحشد العسكري الذي قام بتحرير الكويت الغالية.
ونظراً لهذا الموقف المشرف فقد تم توجيه الدعوة لفخامته لزيارة الكويت، والتي استمرت ثلاثة أيام، بعد العودة إلى مدينة صوفيا قمت بزيارة فخامته لمعرفة انطباعاته عن الزيارة، وقد أفاد أنه قبل الهبوط في مطار الكويت طلب من قائد الطائرة التحليق فوق آبار النفط التي أشعلها النظام العراقي، وبحيرات النفط المتسرب، وخنادق الجيش العراقي المنتشرة على مساحات واسعة من الصحراء.
وأضاف أنه ليس عسكرياً لكنه لو كان لديه جيش ينوي القضاء عليه والتخلص منه لما وجد طريقة أفضل من نشره على هذه المساحة الواسعة من الصحراء وبدون غطاء جوي.
ومن الشخصيات التي التقيتها في ذلك القطار السيد موريس باسترانا رئيس جمهورية كولومبيا الصديقة الذي يشعرك عند الجلوس معه أنك أمام أحد عمالقة ممثلي هوليود، من حيث الوسامة والأناقة، ليس بالملبس فقط بل أيضاً بالحديث والحوار وطرح الأفكار، فهو يدرك أن بلاده تخوض حرباً أهلية أكلت الأخضر واليابس مع افتقاد الأمن والأمان ومستمرة حتى الآن، وعلى مدى أربعين سنة، وبين أطراف متعددة يصعب تجميعها، لكن ذلك لم يثنه عن العمل بجد من أجل السلام، فصناعة السلام في إيمانه وعقيدته أصعب بكثير من صناعة الحرب والسلام، يعني الحياة والبناء بينما الحرب تعني الموت والدمار؛ لذلك فقد كرس نفسه وجهده لإحلال السلام في بلده، واستطاع أن يحول تلك الحركات المسلحة المتحاربة إلى أحزاب سياسية تعمل على الساحة الديمقراطية وتمارس دورها في البناء والتعمير.
فتمنياتنا لذلك البلد الصديق بالمزيد من التقدم والأمان، فقد رفض الغزو والعدوان على بلدنا الغالي، وما زال القطار يسير إلى أن يشاء الله، مع الدعاء دائماً أن يحفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق