كان ذلك في بداية الألفية الجديدة، «اقتحمت» المكتب برفقة عدد من زميلاتها في «كويتيات القرن الواحد والعشرين» وفي يدها ورقة طويلة جدا لم أدرِ كيف كانت تحملها. قبل أن أتفوه بكلمة صاحت: «طلبتك بو مرزوق»… وأيضا قبل أن أقول شيئا وضعت الورقة أمامي وقالت: «وقّع… وقّع… وقّع». اوقع؟ على ماذا يا ابنتي؟ ترد: «أنت بس وقع، هذه عريضة لدعم الحقوق السياسية للمرأة الكويتية نريد أن نجمع أكبر عدد من التواقيع عليها ومن ثم نرفعها الى صاحب السمو».
لم تنتظرني كي اقرأ بل قفزت الى المكتب المجاور وأحضرت قلما وضعته في يدي طالبة مني أيضا أن أجمع لها الكويتيين في الجريدة كي يوقعوا على العريضة… فعلت وكان لسان حال الجميع: «حكم القوي على الضعيف». يومها أذكر أنني وقعت العريضة وبعد يومين من ذلك وقعت طلبا لتوظيفها في «الراي».
هي الزميلة ريم الميع، عاشقة الصحافة والكتابة بالفطرة. نموذج لفتاة كويتية آمنت بان كل شخص في الكويت يمكنه تجاوز كل الحواجز التي وضعت أمام التقدم من خلال أفكاره الخلاقة وإصراره وعمله وإرادته وثقته بنفسه.
فتاة، وهذا بحد ذاته كان التحدي الأول. تراها تزاحم جميع الاعلاميين والمرافقين الامنيين للوصول الى الشخصية السياسية واستصراحها، أو تطير بمفردها الى هذه الدولة أو تلك لاجراء مقابلات ساخنة، ولطالما تعرضت لمضايقات كونها فتاة وكونها تعمل في بيئة ذكورية لن استفيض الآن في الحديث عنها.
وابنة قبيلة كريمة، وهذا ايضا أوقعها ببعض الإحراجات لكنها لم تر يوماً فرقا بين الانتماء الى قبيلة والانتماء الى عصر.
وتعمل في أجواء منافسة شرسة تستخدم فيها الأسلحة المجازة والأسلحة المحرمة أخلاقيا، ومع ذلك حافظت على توازن رهيب بين قدرتها على المنافسة وبين تصديها لهذه الأسلحة.
عملت بجد على كل الملفات الخارجية. حاورت اعداء الكويت قبل أصدقائها وكانت محاربة لا محاورة. صارت رقما صعبا بين الاعلاميين في الامم المتحدة رغم حداثة عهدها في هذا المضمار ورغم أنها تزور الجمعية العامة فقط في دورات الانعقاد بينما غيرها مقيم في مكاتبه هناك. أذكر مرة أنها اتصلت بي من نيويورك لتسألني إذا كان مسموحا لها ان تقابل فاروق قدومي (أبو اللطف) خصوصا أن مواقفه لم تكن جيدة مع الكويت فأعطيتها أمراً بألا تعود إن لم تقابله وتمنيت عليها أن تسأله عن تصريحه الشهير بأن صدام سيجعل الاميركيين «همبرغر» إن هاجموا بغداد. يومها أجرت المقابلة وخرجت منه بعبارة «يخرب بيت صدام»… كذلك الأمر حصل مع توجان الفيصل التي حاورتها ريم بـ«الدبابيس» وليس بالكلام.
بعد ذلك، ارادت ريم أن تكون الصحافية العربية الأولى التي تزور معتقل غوانتامو. كنت متردداً تردد الوالد تجاه ابنته ولم أتعامل مع الموضوع كمالك صحيفة، لكن ريم، وما ادراكم ما ريم، ملكة الاصرار وخبيرة «الحَنّة»: «ارجوك وافق وافق وافق» (مثل وقع وقع وقع)، وافقت وكانت رحلة انسانية حفرت في ذهنها وذهن من قرأ مواضيعها صورا لا تنسى، وتعرضت خلالها لحوادث ومفارقات أعتقد أنها تغنيها عن شرور الطرق والأزمنة لوقت طويل.
«كويتية في غوانتانامو» اسم كتابها الذي وثقت فيه لهذه الرحلة. وصلني منها باهدائها قبل يومين فأعادتني عقدا الى الوراء مستعيدا شريط العمليات الجراحية الكبرى التي أخضعت لها المنطقة ونزيفها المستمر حتى الآن. صحيح أن الكتاب تجربة شخصية – مهنية لكن الاصح انه سفر لكل واحد منا بين خطوط الطول الانسانية وخطوط العرض السياسية.
لن أتحدث عن الكتاب ولغته الشيقة التي برعت فيها ريم. عن المعلومات التوثيقية القيمة المحتضنة بين صفحاته، لكنني سأتحدث بفخر عن ابنة من ابناء الكويت و«الراي» استحقت فعلاً كل دعم وتشجيع وقدمت «كويت» مختلفة عن تلك التي يصر كثيرون على تقديمها أو هم عاجزون عن رؤيتها بعين أخرى.
ريم الميع كتبت قصة حقيقية لا وهمية. قصة تهم الشأن العام لا الشأن الخاص. قصة كما هي باحداثها وتطوراتها كما حصلت لا قصة اخترعت أحداثها كما تريد أو لوت حقائقها بمفهوم الغباء والحقد والغيرة والنظرة الضيقة للأمور. قصة رفعت رأسها ورأس اهلها وزملاء عملها ومهنتها ولم تسئ لأحد إنما تركت لكل واحد منا استخلاص العبر كما يفهمها، ولم تكتب قصة تسيء لنفسها ولأهلها ولأعراض الآخرين ومشاعرهم. كانت مبدعة بصدقها وعفويتها وأسلوبها المباشر ولم تتسول الإبداع من خلال الفجور بالخصومات كما فعل غيرها.
قبل أكثر من عشر سنوات وقعت لها في مكتبي ورقة على عريضة في معركتها لانتزاع الحقوق السياسية للمرأة الكويتية، وامس سعدت بها في الجريدة وهي توقع اهداء على نسختي من كتابها الجديد.
ريم الميع شكراً لأنك كويتية، وشكراً أكثر لأنك… «كويتية في غوانتانامو».
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق