ما أمرّك يا كلام الموت.
وما أصعبك يا رثاء على من يتحاشاك ولا يلج بابك إلا محزونا مكلوما ناثر الدمع جريح القلب.
ما أصعبك على من يهفو إلى دنيا بيضاء ضاحكة مقبلة لا مدبرة.
ولكن للموت صيته وصوته، فإن حلّ القضاء تلبّس الروحَ سوادٌ وخالجها حزنٌ مرٌّ في الفؤاد طعمه.
مات «سليمان فليّح» ربيب الشعر وصديق الأرض وسمائها، حادي نوق الشعر إلى مواردها تشرب صفوا، لا كدرا ولا طينا، وكلما ظمئت درت عليه صافي لبنها ودثرته بوبرها فنام قرير العين دافئا قلبه.
ذلك الصديق العتيق مات، كان بدويّا ما أعجمت المدينة لسانه، وما خطفت منه فطرة البدوي فعاش مدينيّاً لا مدنيّاً.
ما أظنّه تلمّس للشعر طريقا، ولكنّ الشعر آخاه على حين غرة وتدرّعه في سانحة زرقاء ليتربّع في ركن من رأسه.
حوّمت فوقه الأنظار في الكويت منذ سبعينات قرننا المنصرم ثم هبطت في نحو منه ثم دنت، وتبارت أقلام الكتّاب والنقّاد في توصيف شعره وتصنيفه.
ظنّ بعض من دقّ باب ديوانه «أحزان البدو الرحّل» أن فاتحة الباب ستكون قصيدة «نبطيّة» الضفائر مجدولة بالبداوة، فإذا بالفاتحة الباب والكتاب تحمل في جوهرها وفي مظهرها حداثة اليوم الشعري لا قديمه. وفصيحه لا نبطيّه، وإنسانيته، لا غزليته بالواردة الى الغدير تملأ جرارها.
كان «سليمان» كويتي الوجد والهوى، ولكن كتفه التي حملت السلاح سنين طوالا في جيشنا، لم تشفع له لأن يكون كويتيّ الهويّة، فرحل عن الأرض التي نام أهلها وسهر هو على بابها حارسا أحلام نومهم بعين يقظة لم تغف هنيهة عن تلك الأمانة.
استمطر سحائب الشعر وشخب أثداء مزنها فهطلت عليه وروّت ظامئ صحاريه وأعشبت بلاقع كنّ يابسات مجدبات، وأورق الشعر في كفيّه واخضوضرت غصونه.
سليمان فليّح الشاعر حمل على ظهره زوّادة الشعر ولم يلق بها إلا ميتا، وسليمان فليّح الإنسان أحبّ الأرض وكلّ قدم دبّت عليها وما أظنّه عادى أو كره أو عاب، احتفظ بعفويته وما جافى فطرته ولا أنكر المدن التي أحبّ ضجيجها حتى صار جزءا نافعا من ذلك الضجيج.
katebkom@gmail.com
المصدر جريدة الانباء
قم بكتابة اول تعليق