تعيش المنطقة على صفيح ساخن. تهديدات وحشود عسكرية وكروز وكيماوي وبوارج وحاملات طائرات… كثيرون يترقبون كيف تطلق النار على الدول والانظمة من الخارج وقلة ترى كيف تموت الدول من داخل، لذلك قررت أن أكون من هذه القلة وأزور عمنا ابن خلدون الذي افاض واستفاض في الحديث عن ولادة الدول وموتها.
يقول هذا المفكر إن الدول مثل البشر، تولد. تمر بفترات النمو وما يصاحبها من خوف وقلق ورعاية. يشتد عودها. تهرم وتمرض ثم تموت ويعتبر أن الاوكسيجين الذي يمد رئتي هذا المولود المسمى دولة هو العصبية. ليست عصبية دينية أو مذهبية أو طائفية أو قبائلية أو عشائرية كما هي التصنيفات في عالمنا المعاصر. هي عصبية قائمة على عنصري الوطنية والقومية، لكنها لا تستقيم بهما فقط بل لابد من مظلة إيمانية لتكوين كيان من القيم يعصم الانحرافات ما أمكن ويحصن الانتماء.
أما جميع المفكرين الغربيين الذين أبحروا في علم الاجتماع وتأثروا بعمنا ابن خلدون فكانوا غير بعيدين عنه إلا ببعض التفاصيل، وهم يقولون إن الحضارات تزدهر وتموت لاسباب داخلية مثل انهيار «القوة الاخلاقية والقيمية والروحية وفشلها في الاستجابة للتحديات»… ويعتبرون أن الحضارات تنتحر ولا تموت قتلًا.
مراحل الدول وكيف تتدرج من التأسيس الى الحكم العادل فالاستئثار فالاستبداد فالفوضى فالفساد فالانحلال فالغياب، متشابهة الى حد ما عند غالبية مفكري علم الاجتماع القدماء، إلا أن عناصر التحديات الخارجية الكبرى لم تعط حجمها نسبة الى الحجم الكبير الذي اعطي للانهيار الداخلي، اضافة الى ان شكل الدول والامم اليوم في ظل التقدم الصناعي والتكنولوجي وتغير المصالح يفترض مقاربة اخرى لعلم الاجتماع حول نشوء الدول وانهيارها.
ما علينا من الفلسفة والتفلسف. عندنا ابن خلدون و«تلاميذه» الاجانب (انعكست الصورة الآن) وهو يكشف لنا عن عاملين أساسيين من عوامل انهيار الدول:
الأول، هو لجوء السلطة عند شعورها بالضعف إما الى التعسف وإما الى التبذير، وغالبا ما تترافق الحالتان. ويرصد ابن خلدون ان الاستئثار بالسلطة وتركيز الصلاحيات وضعف مبدأ الشورى لا تؤدي الى الاستبداد فحسب، بل الى نشوء طبقة جديدة يمكن إطلاق لقب «الموالين الجدد» أو «حديثي النعمة» على افرادها. وهؤلاء تستخدمهم السلطة ويستخدمون السلطة في الوقت نفسه، ويجد وجهاء الدولة الحقيقيون والمعروفون انفسهم في موقع «ام الولد» ويرتضون بالمركز الضعيف لكن «الحاشية الجديدة» لا ترضى بعدما زينت للسلطة أنها سيفها وعينها وظهرها الحامي، فتتجاسر عليها عند كل تراجع أو ضعف.
ويترافق خوف السلطة واستبدادها واعتمادها على الموالين الجدد مع تبديد الثروة، لان عصبية الولاء الوطني والقومي تراجعت لحساب عصبية الاستفادة والمصلحة. ولا تجد الحكومات إلا الإكثار من العطايا والهبات في محاولة لتعويض الولاءات الحقيقية، لكن هذه السياسة المالية يراها ابن خلدون سياسة فاشلة جدا ومدمرة لأن العدل فيها صعب والظلم فيها سهل، فهناك مستفيد وهناك محروم، وهناك طبقات تريد مساواتها بالطبقات المستفيدة… وهكذا حتى تقل المداخيل فتتلاشى، وهنا يتجاسر كثيرون على السلطة وتضيع الهيبة.
الثاني، هو تمادي بعض الأسر الحاكمة في الفساد خصوصا اولئك الذين أفسدتهم السلطة والثروة، ويرى ابن خلدون ان استبداد هؤلاء أشد من أي استبداد آخر لانهم لم يفهموا السلطة بمنطق المشاركة بل بمنطق الآمر والمأمور. يقول إنهم نشأوا في ترف ودعة، يشيرون بعيونهم فحسب فيتسابق جميع من في القصر لخدمتهم. يطلبون فتتبارى الحاشية، وجل أفرادها من الموالين الجدد كما أسلفنا، في تلبية الطلب ولو على حساب القانون والكرامات. ما يضطر هؤلاء الابناء الى الالتصاق بمنظومة الفساد والانحراف كونهم استمرأوا الأمر وباتوا أسرى النهج والحاشية، والمصيبة في رأي ابن خلدون أن الحاشية المحيطة بالابناء الفاسدين تلجأ مع الايام الى أسلوب الترف نفسه فتحاول أيضا التحكم بمصالح الناس واختراق القانون تحت مظلة الحماية التي أمنها لهم الصغار وانشغال الكبار في التوسع أو مواجهة الحروب أو المشاكل الاقتصادية الكبرى… وهنا ايضا تقل العصبية الحامية للدولة ويصبح رفض الحاشية رفضا لـ«معزبيهم» الصغار من ابناء المسؤولين الكبار، وربما رفضا للسلطة نفسها مع الايام.
مرة أخرى، بقي المكان وتغير الزمان، وما قاله ابن خلدون في أبحاثه قديما (ولد عام 1332 وتوفي بعد ذلك بخمسين عاما) تحول علما استفادت منه (حرفيا) حضارات وأمم كثيرة، وما زال المفكرون الغربيون أسرى الاعجاب بنظرياته التي نتمنى أن تستفيد منها النخب العربية كي لا تكون دولنا مثل بعض سياساتنا… انتحارية.
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق