خليل حيدر: ومضة من عصر.. “رابعة العدوية”

هل سيكون لميدان السيدة رابعة العدوية في القاهرة، نفس شهرة وخلود «ميدان التحرير»، ساحة الثورات المصرية؟ وهل سيتحول ميدان رابعة كذلك، الى معلم سياحي في العاصمة التي يعاد بعث اسم وخيال هذه المتصوفة الكبيرة التي انصرفت للعبادة والسكينة والزهد، بعد اكثر من الف عام، وسط كل هذا الصخب والاضطراب والصدامات، بعد ان تحصن الاخوان المسلمون وانصار الرئيس المخلوع، في الميدان الذي يحمل اسمها، ثم جرى اخراجهم منها بعد اسابيع من التوتر والصراع.
في العدد العشرين من «مجلة العربي»، يوليو 1960، كتبت الاديبة السورية – اللبنانية «وداد السكاكيني» مقالا عنها بعنوان «رابعة العدوية: عازفة الناي التي عزفت عن الدنيا». وتثير مقالة السكاكيني وشخصية رابعة العدوية نفسها، سؤالا يستحق البحث: لماذا لم يستقطب التصوف، برقته وشاعريته، عددا اكبر من النساء؟ تقول الكاتبة، «ان علم النفس المعاصر لا ينكر ان المرأة ارق طبعا واشف عاطفة من الرجل، ولذا وجدنا النسوة الصالحات على قلّتهن يفضلن الرجال الصالحين في الشرق والغرب، فما روى التاريخ ولا حدثت السير بأروع من قصة رابعة العدوية التي كان تصوفها خالصا لله وحده، فتأبت على البشرية وتجاوزتها الى الذوبان والاحتراق في حب لم تسبقها الى مثله واحدة في الاسلام».
هل كانت المتصوفات وحتى الشاعرات في الثقافة العربية والاسلامية قليلات ونادرات ام ان المرأة كانت مقيدة فكرا، ومحبوسة داخل سجن التقاليد؟ وهل كانت تمتلك نفس حق الرجل في التعبير عن الرأي والعاطفة، بل حتى وان تتفرغ للعبادة والمشاعر الدنيوية والتأملات الروحية؟ لقد امتنع «السيد أحمد البدوي» عن الزواج، وعكف على العبادة، وقد جاء في مخطوطة ببرلين ما معناه «انه لم يقدر له ان يتزوج الا من الحور العين». وقد اعتزل الناس وعاش في صمت لا يفصح عما يجول في نفسه الا اشارة، واصبح في حالة «وَلَهٍ» دائم! وقد لقب بالبدوي لانه كان يلبس اللثام على عادة بدو افريقية، وقد زار في العراق قبور اقطاب التصوف كالرفاعي والجيلاني والحلاج. وكان احمد من مواليد فاس بالمغرب، ومات في طنطا بمصر سنة 1276 ميلادية، ويعد اليوم «اكبر اولياء مصر، ومحل تبجيل اهلها منذ قرون»، كما تقول بعض المراجع. (الموسوعة الاسلامية الميسرة، جب وكالمرز، 1985، القاهرة).
كانت «ام الخير رابعة بنت اسماعيل العدوية البصرية»، وهذا اسمها في الموسوعة الصوفية للدكتور عبدالمنعم الحفني، قد ولدت عام 185هـ، وكانت البنت الرابعة لابويها. ويروون عن العدوية انها وهي طفلة خرجت هي واخوتها من شدة الجوع وقت ان نزل القحط بالبصرة، فوجدها رجل باعها بستة دراهم. «وكانت تقرض الشعر وتغنيه وتعزف على الناي، ولها مزاج فني رقيق وميل طبيعي الى الحزن، ولعلها لذلك كانت تحب الناي على العود، وشعرها انثوي فيه لغة النساء، وربما استعملها سيدها للغناء في مجالسه وكان ذلك يسخطها عليه بسبب اتجاهاتها الدينية القوية». ويضيف د. الحفني ان سيدها سمعها ذات ليلة تناجي ربها ساجدة وتقول «الهي! تركتني تحت رحمة هذا المخلوق القاسي من عبدتك!» فلما كان الصباح طلبها سيدها واعتقها، فازدادت بعد تحررها تدينا. وكانت اذا انتهت من صلاة العشاء تصعد الى سطح دارها بعد ان تشد عليها درعها وخمارها.. لتتعبد كانت البصرة ابان تألق رابعة العدوية في مستهل العصر الثاني للهجرة، تقول السكاكيني: و«كانت موئلا للفقهاء في الدين واللغة، وساحة للعارفين والمتصوفين، كما كانت مجمعا للاضواء في المجون والترف. وقد أطلت عليها رابعة ببؤسها من كوخ والدفقير.. ولم يكن في حكمة الامم منذ سقراط الى برغسون من استطاع ان ينفذ من خلال الروح الانسانية الشفافة الى مراقي التجلي مثل رابعة العدوية التي محضت الاله حبها».
نحن اليوم نعيش عصر «الاسلام السياسي» وتحويل الدين الى جملة شعارات قتالية ومفاهيم تناحرية.. وما كان زمن رابعة العدوية بالطبع هكذا. وقد تساءلت الكاتبة سنة 1960 تقول في خاتمة مقالها: «ترى لو بعثت رابعة في ايامنا، هل كانت تؤثر البقاء مع اناس يعدون التصوف انهزاما وضياعا، او انها تهرب منا وترجع القهقري الى رمسها الهادئ المطمئن؟» سؤال نتركه.. لسكان الميدان!

خليل علي حيدر
المصدر جريدة الوطن

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.