في إجازتي الصيفية خارج الكويت, أستيقظ باكرا بحكم أمومتي, فالأمومة لأطفال بعمر يسبق سنوات المدرسة لا تعرف الإجازات, وبعد أن أتمم ما أحبه من مهمات, وبعد أن أنجز ما يحبه أبنائي ولا أحبه من مهمات, أسرق ساعة من زمنهم معي أقضيها في مقهى وقعت في غرامه من النظرة الأولى. وباكرا جدا أذهب لأجمع شتات أفكاري على ورق بصحبة “لاتيه” المقهى الذي غدا من أعز رفقائي هناك. وفي هذه الساعات المبكرة جدا وجدت ذات مرة امرأة شابة بملابس رياضية صيفية تكشف عن معظم جسدها, تقف على أطراف أصابعها محاولة أن تعلو عن الأرض قدر استطاعتها لتلتقط بيدها بعضا من الأزهار الموضوعة في آنيات فخارية معلقة على جدار المقهى الخارجي, وتساءلت كثيرا وأنا أراقب رشاقة حركتها وقوة ثقتها إذا ما كان من المسموح لها أن تقتطف أزهارا تخص المكان, وأن تعمد إلى تخريب المنظر الجمالي للمقهى, وتلفت حولي فلم أجد من يعيرها انتباها ولا من ينظر إليها باستياء فعدت بعيني لمكانهما وعدت بأفكاري لتعنى في شأني وحدي كما يفعل جميع من حولي.
وفي صباح يوم آخر, وقبل أن أهم بارتشاف أولى أكوابي الصباحية, وجدت المرأة ذاتها وهي تقل بسيارتها رجلا أراه هو الآخر “دائما” بملابس بسيطة وعملية, فكان إما في المقهى أو حوله بشكل أو بآخر, ولم أعرف أو أستطع أن أحدد طبيعة عمله في المقهى, وذلك أنه كان أحيانا يكنس ما خلفه الناس من فتات الكرواسون الذي لا يملكون منعه من السقوط على الأرض, وأحيانا أخرى يهم بتزويدي بأوراق بعد أن استهلكت ما ملكته من أوراق, أو بقلم بعد أن فقدت قلمي وأنا أهرب من مطر خارجي غزير, ومرات كنت أراه يجالس أحد الندلاء في المقهى وبيده الكثير من الجداول والأوراق فيتكلم ويستمع, حتى أدركت في مرة بعد أن لاطفني وهو يقدم لي كوبا من القهوة على حساب المحل بأنه المالك, كان ذاك الرجل قليل الكلام, كثير الحركة, ثائر الشعر, دائم الابتسام, أبيض الشيب, صاحب أكثر الأعمال تنوعا هو المالك – وليس المدير فقط- لمقهى من أعرق وأهم المقاهي في المدينة, والذي يعود تاريخ تأسيسه لعام 1952.
ومهما أحاول أن أشرح سبب صدمتي لإنسان مثله, لن أتمكن أبدا من بيان شعوري التام بالإعجاب به, وبالثقافة التي نشأ عليها وتربى في حضنها, كما لن أتمكن من إخفاء خجلي من ثقافة نشأت فيها لا تحتضن العاملين فيها بأيديهم, وإنما تأمرنا أمرا أن يزداد معدل جلوس أعالي أفخاذنا على كراسي من جلود مريحة, فتعلو نزعتنا إلى أمر من حولنا على الإتيان بأتفه الأعمال شأنا وأكبرها, ولن يدرك هذا الرجل مهما حاولت أن أمكنه من إدراك أنني آتي من بيئة المالك فيها لأي عمل لا يعمل فيه وإنما يحيله إلى غيره يتعب ويعمل على أن ينفق هو المال العائد له منه.
الناس هناك تحب أن تعمل, وعندما تعمل تحب عملها, وإن لم تحبه أدركت أنها بحاجته لتعيش وتمكين غيرها من العيش, والناس عندنا تكره عملها مهما كان مريحا, وتجهد نفسها بالشكوى منه وتصرف من طاقاتها الكثير هدرا في أن تشتهي أعمالا تدر عليها براحة أكثر فيزداد فيهم الخمول وتموت فيهم الإيجابية ويقتل فيهم الطموح.
الناس عندنا تحتاج إلى شباب يعمل خارجا بعقلية وثقافة الخارج, ليعود بعد عمر على قدر من الوعي والثقافة المهنية التي تمكنه من إعمار بلد كالكويت لا يستحق من أبنائه هذا الجحود ولا تلك البلادة ولا ذاك الكسل الأناني الجارح لمعاني الوطنية ومفاهيم الانتماء.
ملاحظة: المرأة المشار لها في أول المقالة هي مالكة المقهى وزوجة المالك, وكانت بين كل صباح وصباح تهم بقطف الأوراق الميتة والأزهار الذابلة خوفا على باقي النباتات وحرصا على الشكل العام للمحل, مع العلم أنها كانت تهم بفعل ذلك في وقت مبكر جدا وبعد أن تقضي رياضتها الصباحية.
h_alhuwail@yahoo.com
المصدر جريدة السياسة
قم بكتابة اول تعليق