جاسم بودي: دعاة الزمن… الرذيل

ما زال الجدل قائماً في مصر إثر قرار وزارة الأوقاف حصر الخطابة والإمامة في المساجد بمنتسبي الأزهر وخريجيه. بعضهم يرى في القرار تصحيحاً لخطأ تاريخي وآخرون يعتبرونه تصفية حساب مع مجموعة من الدعاة من عهدي الرئيسين السابقين مرسي ومبارك.

الجدل لن يتوقف لا في مصر ولا في غير مصر. وبصراحة شديدة مطلوب ألا يتوقف وألا يقتصر على موضوع إداري وأن يتجاوزه إلى فتح صفحة الدعوة والدعاة والاجتهاد والفتاوى لان الوضع السائد اليوم سيؤدي حكماً إلى اضعاف الإسلام والمسلمين… والله أعلم.
والغرابة في الخبر المصري ليس قرار وزارة الأوقاف، بل في ان القرار يعني الاستغناء عن نحو 60 ألف خطيب وداعية وإمام من خارج الأزهر الشريف وبعض هؤلاء اكتسب علوم الشريعة والفقه على يد اساتذة يملكون فكراً خاصاً يبيح الكثير من المحظورات بدءاً بالأعراض وانتهاء بالدماء.
ستون ألف «شيخ» لا تعرف المؤسسة الدينية الأم في مصر عنهم شيئا فماذا عن الخليج والعالم العربي؟ آلاف الدعاة لا نعرف شيئا عن شهاداتهم وافكارهم ومنطلقاتهم الفقهية ومدارسهم. آلاف في المدن والقرى البعيدة والنجوع النائية يعبئون عقول المصلين والمريدين والاتباع بفتاواهم وأوامرهم.
طبعا، ليس جميع الأزهريين فوق الانتقاد كما ان الكثير من الدعاة غير الأزهريين يتمتعون بالعلم والخبرة والاخلاق والإنسانية، لكننا هنا نتحدث عن فئة معينة من الدعاة، أولئك الذين يدخلون العقول قبل المنازل ويتحكمون لاحقا بالسلوكيات، خصوصاً إذا كان التابع جاهلا أو فقير التعليم والثقافة واقتنع ان الداعية الذي امامه هو استاذه وان استاذه «شيخ» وان هذا الـ «شيخ» صاحب كرامات وان صاحب الكرامة «أمير» عليه وعلى غيره لا ينطق عن الهوى بل يزوره الرسول عليه الصلاة والسلام أو الأئمة عليهم السلام في المنام ويأمرونه ان يفعل كذا أو ان يوجه اتباعه إلى هذا الطريق أو ذاك… ويصل الأمر إلى «وثنية» مقنعة، فبدل ان يقول خدام الأصنام للعامة ان هبل وعزى واللات يأمرونكم بقطع الطرق أو سرقة القوافل، يقول هؤلاء الدعاة ان رسلاً وائمة وملائكة زاروهم في الرؤية ويأمرون الاتباع بقطع الاعناق وقتل الكتّاب وتفجير الاماكن العامة.
لم يكن في ما سبق ذكره كلمة مبالغة واحدة بالنسبة إلى الاتباع، عودوا إلى شهادات المضبوطين والتائبين ووصايا الراحلين. هناك من طعن كاتباً لان «امامه» قال له انه كافر وهو لم يقرأ الكتاب، وهناك من اغتال كاتباً للسبب نفسه، وهناك من فجر سياحاً لان «الشيخ» أفهمه أن هؤلاء «كفرة»، وهناك من ذبح جنينا في بطن أمه لان «أميره» أفهمه أن هذا الطفل عندما سيكبر سيصبح «كافرا»… وهناك من قتل شقيقه لانه «تجرأ» وشكك أمامه في «كرامات» من يتبعه.
ومن يتمعن في تاريخ هؤلاء الدعاة، وهم من كل الطوائف الإسلامية والمذاهب، يجد ان أمراضهم النفسية وعقد العجز المستحكمة في دواخلهم وجدت متنفساً لها في كرسي الدعوة أو الامامة. القاسم المشترك بين الكثيرين منهم هو فشلهم الدراسي، أي فشلهم في إحدى الفرائض الكبرى التي ينص عليها جوهر الدين العظيم «من المهد إلى اللحد»، وفشلهم في أعمالهم ووظائفهم، وفشلهم اجتماعيا حيث تفشت لديهم عقد الريادة بلا مقومات خصوصاً أننا في عالم ثالث يعشق الزعامات ويقدس الزعماء، وفشلهم في التعايش مع فضاء عالمي يتطلب من المسلم ان يكون استاذاً في خوضه واستاذاً في لغة الحوار واستاذاً في الانفتاح على الآخر وثقافته وحضارته ومجادلته بالتي هي أحسن، وأن يكون سفيراً حقيقياً لدينه وظلاً للمحبة الإلهية على الأرض مهما كانت التحديات قاسية.
لم يكن في ما سبق ذكره كلمة مبالغة واحدة بالنسبة إلى الدعاة. بل إذا اردت استعراض تاريخ بعض الدعاة الذين يملأون الفضاء الإعلامي اليوم ويتجاوزون الخطوط الحمر فقط لتسيد الخبر وإظهار الريادة، فلا تكفينا مجلدات لتبيان كم هم تافهون وكم كانوا فاشلين، رغم كل محاولات الوقار الكاريكاتورية التي يظهرونها في تسجيلاتهم حيث يتحدثون بهدوء أو بغضب وينصت اليهم الاتباع والرواد بإعجاب. بعضهم طرد من عمله بسبب تحرشه بفتاة صغيرة، وبعضهم سحبته زوجته الى المخفر لاساءته معاملتها وبعضهم رسب في كل المواد فوجد من يزوده شهادة دكتور في الشريعة وهو يرتكب في جملة واحدة من لغة الضاد، لغة القرآن الكريم، عشرة أخطاء نحوية وقواعدية.
أما القاسم المشترك بين كل هؤلاء الفاشلين فهو دعوتهم للصدام مع الآخر والإساءة الى معتقداته ورموزه وهدم الاستقرار المجتمعي والامني وذبح الوحدة الوطنية ونبش التاريخ واستفزاز الشقيق في الدين قبل الشقيق في الدنيا. تنهار هالاتهم الوهمية أمام سخافاتهم بل سفالاتهم عندما يحصرون كل تحدياتنا الحالية بالتهجم على زوجات النبي عليه الصلاة والسلام أو على صحابته أو على اهل بيته. دعاة قاصرون عن رؤية العالم الجديد الذي يتشكل بالعلم والتكنولوجيا ومصادر الثروة الجديدة والاكتشافات التي ستغير طبيعة العلاقات الدولية… يقصرون دعوتهم على النحر والقتل والحديث عن المقامات والاموات والثأر التاريخي.
دعاة الزمن الجميل. دعاة الازهر في بدايات القرن الماضي تحديدا. نقلوا أجمل ما في عقيدتنا الى الخارج. افادوا واستفادوا وأبدع بعضهم في الادب والعلوم والفلسفة وتأسست بعد زياراتهم مختلف المؤسسات الاوروبية المعنية بفهم الدين الاسلامي. كان المسجد للصلاة والمعاهد للعلم بكل فروعه. وسير هؤلاء تستحق ان تكون في صلب مناهجنا كي نتعلم فعلا لا قولا ان لا وسطية ولا اعتدال من دون علم وانفتاح وتعاون خلّاق مع الآخر.
دعاة الزمن الرذيل. زماننا. دمروا أجمل ما في عقيدتنا. شوهوا الدين وكيفوه مع عجزهم وأمراضهم وعقدهم وخلقوا جيلا من الاتباع الذين ارتضوا ان يكونوا رصاصا في بنادق المتطرفين تأسست بعد «غزواتهم» إلى الخارج والداخل مختلف عوامل كره الدين. كان المسجد للصلاة والمعاهد للعلم فصار المسجد للتحزب والحشد والاستقطاب وغسل العقول وأحيانا تخزين السلاح. وسير هؤلاء الدعاة تستحق ان تكون ايضا في صلب مناهجنا إنما ضمن قائمة سوداء إما لمحاكمتهم وإما لتعرف الاجيال القادمة كيف تتم الاساءة الى الدين من بعض أتباعه.
الموضوع أكبر من أن يختصر بخطوة الازهر. أعمق من أوضاعنا الراهنة. أكبر من هؤلاء الدعاة الذين ردعوا ولم يرتدعوا… ومع ذلك لا بد من بداية ولو متأخرة.
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.