جاسم بودي: النرويج… والدولة التي في بالي

شد الحزام جيداً فسنهبط في مطار أوسلو، وهو بالمناسبة واحد من عشرات المطارات في بلد لا يتجاوز عدد سكانه الملايين الخمسة.
النرويج، كما الدولة التي في بالي، مجتمع يميل تاريخيا إلى المحافظة. عدد سكانها قليل جدا مقارنة بمحيطها، كانت محط أطماع البعيد والقريب (وخصوصا القريب). أهلها أهل بحر، اعتمدوا على السفن في التجارة وتأمين البر، تماما كما الدولة التي في بالي، خليط متجانس استقبل مجاميع كثيرة ذابت في النسيج الاجتماعي وصارت جزءا من شعبها. تعرضت لغزوات كثيرة وكانت دائما تقف مجددا على قدميها. لكنها، وبعكس الدولة التي في بالي، تمتلك اليوم أحد أكبر أساطيل السفن في العالم ما يدر عليها دخلا ممتازا من عمليات النقل والتجارة ويشغل آلاف النرويجيين، إضافة إلى استقطاب موانئها ومصانعها لمختلف طلبات تصنيع السفن للدول الاخرى.
والنرويج، مثل الدولة التي في بالي، تمتلك ثروة سمكية لكنها جعلت هذه الثروة مصدرا للعيش والدخل وأقامت على جوانبها منظومة اقتصادية متكاملة هي الأكبر في العالم بعد الصين.
والنرويج، كما الدولة التي في بالي، اعتمدت النظام الديموقراطي، وهي ملكية دستورية برلمانية. عضو في منظومة إقليمية مصغرة وعضو في الكثير من مؤسسات الاتحاد الأوروبي. تنأى حتى الساعة بنفسها عن الاندماج الكامل لأنها ترى أن تجربتها في الحريات العامة والديموقراطية وحقوق الإنسان يمكن أن تتراجع قليلا كون أنظمتها التشريعية والقانونية في هذه المجالات متقدمة على كل جيرانها. النرويج الأولى في حرية الصحافة في العالم وأقل دولة في العالم فيها معدلات جريمة على رغم أن عقوبة الإعدام ألغيت فيها منذ أكثر من مئة عام. لكنها، وبعكس الدولة التي في بالي، تسير أمور تطوير النظام السياسي فيها بكل سلاسة رغم السلطات الكبيرة للبرلمان في الرقابة والمحاسبة. غالبيات موجودة أو ائتلافات بين أقليات. تمثيل نسبي (150 عضوا) مع مقاعد تسوية (19 مقعدا) لضمان وجود الجميع. ورشة عمل واحدة بين الحكومة والبرلمان لمتابعة استثمارات الخارج وتطوير اقتصاد الداخل وحماية المكتسبات الدستورية و«القومية» كما يطلق عليها… وحراك سياسي متقد إنما لا يترجم إلا لمصلحة المواطن النرويجي والاقتصاد النرويجي.
والنرويج، كما الدولة التي في بالي، عدد سكانها قليل وبدأت منذ العام 1975 الاستعانة بأيادٍ عاملة خارجية إنما بطريقة محسوبة ومدروسة وتتماشى مع معايير متطلبات الكفاءة الاقتصادية لا تجار الإقامات، فمستويات البطالة لا تتجاوز 3 في المئة كما أن مختلف النرويجيين يعملون بجد ونشاط في كل المهن وفي مختلف المؤسسات العامة والخاصة (من قيادة سيارة تاكسي إلى السمكرة إلى الابحاث النووية) إلى الدرجة التي اعتبرت معها المنظمات الدولية أن مستويات إنتاج النرويجي في القطاعين العام والخاص في الساعة هي الافضل في العالم ولذلك فإن أجر النرويجي في الساعة هو الأعلى في العالم. كذلك فان مشاركة النرويجيات في عجلة الإنتاج تقترب من النصف (لا منع للاختلاط هناك) وهذا من الأسباب التي جعلت البلد متقدما. بمعنى آخر، لا توجد في النرويج بطالة مقنعة بحيث يجد كل إنسان وظيفة لكن عجلة الإنتاج متوقفة، بل تقاس التنمية عندهم بمستوى الانجاز في ساعة… وقد يكون هذا المستوى في ساعة أكبر من مستوى الإنجاز في الدولة التي في بالي في شهر.
اللغة الإنجليزية في المدارس النرويجية هي اللغة الأساسية مع اهتمام خاص باللغة المحلية التي يتقنها الجميع عن ظهر قلب، ونظام التعليم هناك يربط الطالب بعد المرحلة الابتدائية مباشرة بخيارات التخصص والعمل لذلك فإن نسبة النرويجيين الحاصلين على شهادات جامعية عليا من بين النسب الأعلى في العالم، كما أن مشاكل ربط الخريجين بسوق العمل هي الأدنى في العالم نتيجة استراتيجية الاختيار في المرحلة الثانوية… آخ على الدولة التي في بالي.
80 في المئة من شعب النرويج ملتزمون بقيم دينهم، لكن 80 في المئة من هؤلاء يرفضون إقحام الدين في كل مناحي الحياة العملية و95 في المئة من هؤلاء سخروا في أحد الإحصاءات من إمكانية تسييس الدين أو توظيفه في السياسة واستغربوا من السؤال.
النرويج، كما الدولة التي في بالي، تنتج النفط. هي أكبر منتج للنفط في أوروبا والثالثة في التصدير عالميا بعد السعودية وروسيا. اكتشاف النفط فيها عمره قصير نسبيا مقارنة باكتشافات الدول الأخرى، ومع ذلك فهي الأفضل في العالم التي أتقنت إدارة استخراج النفط وتسويقه والاستفادة منه. بمعنى آخر، قررت النرويج، ملكا وحكومة وبرلمانا وتيارات سياسية ونخبا شعبية، عدم الاعتماد على النفط لتمويل ميزانيتها، بل وضعت عائداته كلها في صندوق للاجيال (الثروة السيادية أو صندوق معاشات التقاعد الحكومي – العالمي) لا تستخدم منه الا ما يعادل 4 في المئة سنويا لدعم الميزانية. اما الباقي فتديره الدولة مع مؤسسات مالية واستثمارية محلية واستشارية من جميع أصحاب الكفاءات في العالم في استثمارات آمنة ومتنوعة ووفق أعلى درجات الرقابة والشفافية (أسهم، استثمارات عقارية ضخمة، مصانع، مزارع الخ) بحيث يتوقع أن تبلغ احتياطات هذا الصندوق ألف مليار دولار بعد ستة أعوام.
لم تركن النرويج إلى هذه الثروة الطبيعية لتوليد قيم التكاسل والتواكل والتراخي والاعتماد. فغالبية دول العالم الثالث التي يشكل النفط العمود الفقري لاقتصادياتها، وبينها الدولة التي في بالي، تترك الاقتصاد في مطب التقلبات (طفرة عالية أو انكماش سريع) وتذبذب الأسعار وانخفاض قيمة العملة وارتفاع التضخم واعتماد سياسة إنفاق بلا ضوابط ونشوء مناطق فساد وإفساد وسوء إدارة وهدر، لذلك عمدت النرويج إلى الاهتمام بالثروة الطبيعية إنما ليس على حساب الثروة البشرية. استثمرت كل وفر مالي في الصناعات الكبيرة المشتقة عن النفط والغاز وصارت هذه الصناعات في الواجهة والنفط في الظل. أصبحت من أولى الدول في التنمية البشرية فصار العلم والتكنولوجيا والعقل النرويجي في الواجهة والنفط في الظل. زادت الاهتمام عشرة أضعاف بالثروة السمكية وبالصناعات الأخرى غير المرتبطة بالنفط من سفن وغذاء ومعادن وغابات واتصالات وطاقة مائية فصارت هذه في الواجهة والنفط في الظل… وعندما انهارت اقتصاديات العالم أو تأثرت سلبا قبل سنوات بعد أزمة الرهن العقاري الأميركي كانت النرويج تحقق فائضا وتفكر في مجالات توظيف 9 في المئة منه… وكانت أرقام الدخل الفردي والقومي والعام تحتل الصدارة في بيانات المؤسسات الدولية.
معدلات المعيشة في النرويج أغلى من أميركا بـ 30 في المئة ومن بريطانيا بـ 25 في المئة، ومع ذلك يعيش النرويجي مرتاحا اليوم بفضل دخله العالي، وهو مطمئن على مستقبل أبنائه نتيجة السياسة الحكيمة العظيمة للسلطة والمجتمع في إدارة الموارد الحالية وخلق موارد جديدة… فهل ينسحب هذا الاطمئنان على الدولة التي في بالي؟
بالمناسبة، ما هي الدولة التي في بالي؟
عموما عزيزي القارئ، الرجاء شد الحزام لأننا… نهبط… نهبط.
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.