خليل حيدر: هنا لندن

عندما كنا نستمع الى برامج معينة من الاذاعة البريطانية BBC في الماضي، وقبل طغيان التلفاز والالكترونيات، كنا نعجب من كثرة الاختصاصيين الانجليز وغيرهم في القضايا العربية ومختلف مجالات الحياة الصحية والمعيشية والاقتصادية، فما ان يرسل احدهم سؤالا الى برنامج «السياسة بين السائل والمجيب» في هذه المحطة مثلا، حتى يحال على احد اهل الاختصاص من اساتذة الجامعات البريطانية للاجابة عنه. وكنا الى جانب ذلك ننبهر من دقة الاجابة وشمولها والموضوعية في تناول الاحداث والشخصيات والمواضيع، التي كثيرا ما كانت تعرض مشوهة منحازة ناقصة في وسائل اعلامنا العربية.
يتساءل الواحد منا اليوم: اين اساتذة جامعات الكويت ودول مجلس التعاون والجامعات العربية.. عن التبحر والتخصص؟ لماذا لا نجد الا اقل القليل من هؤلاء، ولا نجدهم الا في «شؤون الجماعات الدينية» مثلا بعد اي تطور سياسي او عملية ارهابية، ولا نشعر بوجودهم الا اذا حدثت ازمة ما وبخاصة عسكرية، او تتعلق بالولايات المتحدة ودول الغرب!
في العالم العربي مثلا جامعات كثيرة بها اقسام للعلوم السياسية والاجتماعية فكم عدد المتابعين من اساتذة هذه الاقسام للتطورات الدولية او المنكبين على متابعة دولة ما، عربية او اسلامية او آسيوية مثلا، ومن العارفين لادق تفاصيل ما ينشر عن هذه الدول، او من الاساتذة الذين يزورون هذه الدول زيارة الباحثين وجامعي المعلومات، والمتصلين بزملاء الاختصاص في هذه الدول؟ ومَنْ من الاساتذة الاكاديميين في علم الاجتماع مثلا يتخصص في قضايا اجتماعية كالطلاق او مشاكل الشباب او الطائفية او التعصب والارهاب او غير ذلك؟ ومَنْ من هؤلاء يتحول الى «مرجع أعلى» في بعض شؤون السياسة او الاجتماع او الاقتصاد، او في كل ما يتعلق بدولة ما او قضية معينة؟
ربما كان هذا التقاعس من اهم اسباب تخلف العلوم الاجتماعية والدراسات الاكاديمية في العالم العربي. فمشاكلنا في هذا المجال وغيره كثيرة، والبحوث التي يجريها معظم اساتذة الجامعات في العالم العربي مُنْصبّة على مجالات الترقية المهنية، محدودة الافق، تتجنب الجهد الواسع وتتحاشى الاثارة السياسية والحساسية الاجتماعية، وتختار من المواضيع ما لا تغضب الدولة والادارة الجامعية والبرلمان والاعلام.. وبالتالي المجتمع الراكد كله!
لمَ يكتب اساتذة الجامعات الاسرائيلية من البحوث في مجالات العلوم البحتة والاجتماعية والسياسية، اضعاف اضعاف ما يصدر في معظم دول المنطقة الاكبر من اسرائيل بكثير؟
بمَ ينشغل الدكتور الجامعي في بلداننا؟ والى اي مدى يدرك الاكاديمي واجباته والقضايا التي تحتاج الى عقله وجهده؟ الاستاذ الجامعي من جانب آخر، وفي العديد من البلدان العربية، يعاني من ضغط الدولة وتسييس الحياة الجامعية والبحث الاكاديمي نفسه في بعض الاحيان، او يعاني كذلك من قلة الراتب وانخفاض الدخل وثقل الحمل التدريسي وعدم توافر المراجع. والى جانب عيون الدولة هناك عيون المجتمع والاتحادات الطلابية، ويرى نفسه في نهاية الامر مربوط اللسان مكبل الفكر فاقد الجرأة. الكثير من اساتذة الجامعة وحتى الاطباء، وكل من يحمل لقب الدكتور، يلتفتون الى مصالحهم الفردية ومجالات الصعود الاجتماعي والسياسي والمهني والاستثماري. وهناك من يجد في المناصب الحزبية والحركات السياسية مجالا لتحقيق تطلعاته. ولكن هذا كله يتم على حساب التخصص والبحث والتجديد. بل من الاساتذة من يهب الدرجات التقييمية الرفيعة لبعض الطلاب والطالبات لاسباب «غير دراسية»، ومنهم من يطبع مذكرات مواد الدراسة او يركز في تدريسه على بعض الكتب متكسبا من بيعها.. وهكذا.
ومع مرور الوقت وتدهور قيم المنافسة المهنية دخل الكثيرون مجال الشهادات الرفيعة.. المزيفة. والجامعات التي تمنحك الدكتوراه بأسرع من البرق، ودون حصولك على البكالوريا والماجستير، ودون ان تدخل قاعة الدراسة او تؤدي اي اختبار. وهناك موظفون غارقون في اعمال خاصة او عامة، ينالون ارفع الشهادات، وينالون العلا.. دون سهر الليالي. ان كان ما يمر بنا اليوم في العالم العربي ربيعاً، فينبغي ان نرى في هذه المجالات اولا اخضرار الاوراق وتفتح البراعم!

خليل علي حيدر
المصدر جريدة الوطن

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.