خليل حيدر: المرأة السعودية.. والسيارة

المملكة بلا أدنى ريب وسط تحولات واسعة باتت تحتم السماح للمرأة بقيادة السيارة في قضاء حوائجها

أعقد القضايا التي تحاول سلطات المملكة حلها بعد أن اصبح عمل المرأة واسع الانتشار

قلة منا، رجالاً ونساء، تدرك المصاعب المعيشية والوظيفية التي تعاني منها المرأة السعودية، رغم التسهيلات التي تقدمها السلطات الرسمية ووزارات كالتربية والعمل، ورغم جهود النساء في المملكة، وما يحاول عامة مؤيدي حقوق المرأة تقديمها لنساء المملكة. إذ تبقى ممنوعات دينية ومحاذير اجتماعية وكوابيس معيشية لا حصر لها تلاحقها كل يوم في المنزل والشارع ومحال العمل وكل مكان تقريباً. منها مثلاً منع كل ما يمكن منعه من صور «الاختلاط»، مهما كان عفوياً وضرورياً أحياناً. ومنها مستلزمات الملبس والمظهر والكلام والتصرف، والتي تبدو طبيعية للنساء في مجتمعات كثيرة أخرى.. الا للمرأة السعودية.
قيادة المرأة للسيارة اليوم، من أعقد القضايا التي تحاول سلطات المملكة حلها، بعد ان اصبح عمل المرأة واسع الانتشار، وأصبح من حتميات رفع المستوى المعيشي للاسرة السعودية في الطبقة المتوسطة والمثقفة خاصة، ومجابهة الغلاء وكثرة مصاريف الحياة كما في كل دول مجلس التعاون وبقية البلدان العربية، وبعد ان تزايد عدد الخريجات والنساء العاملات وتضاعفت مسؤوليات المرأة. فالمملكة العربية السعودية دولة كبرى مترامية الاطراف متناثرة القرى والمدن. بل ان بعض مدنها كالرياض، او مناطقها الحضرية والصناعية باتت من الامتداد والضخامة وتعقد الحياة، ما لا يمكن معه تطبيق أية حلول للعمل والوصول لمقر الوظيفة وحضور الاجتماعات والانتقال من ادارة الى اخرى، دون السماح للمرأة الموظفة خصوصا، ولعموم النساء، بقيادة سياراتهن. وتحاول مدرسات وموظفات كثيرات في الوقت الراهن الاعتماد على النقل الجماعي الخاص كالباصات الصغيرة او جلب السواق من الخارج، ولكن الجميع يشعر باستحالة استمرار هذه الحلول، مع دولة باتت تتصدر بلدان العالم العربي والاسلامي كالمملكة العربية السعودية، وبات كل صغيرة وكبيرة من تفاصيل حياة مجتمعها تحت مجهر أجهزة الاعلام في كل مكان.
نشرت صحيفة الحياة قبل اشهر مقالا مؤثرا كتبته اعلامية سعودية وهي «حياة الغامدي» بعنوان «معاناة سعوديات على الطرق.. الى اماكن العمل»، 2013/2/7، جاء فيه: «تستعد فاطمة (28 سنة) لخوض «قصة» جديدة مع سائقين جدد حتى تتمكن من الوصول الى عملها في الوقت المناسب، بعدما كانت سرّحت سائقها الذي اشتغل لديها نحو شهرين، اثر تحرشه بها بطريقة غير مباشرة فاطمة لها تاريخ مأساوي مع السائقين، اذ اشتغل لديها ثمانية سائقين من جنسيات مختلفة لم تجد في احدهم الشخص المناسب، بسبب عدم شعورها بالامان مع اي منهم. فعندما بدأت عملها مطلع عام 2008، لجأت الى سائق سعودي يقلها من المنزل الى مكان العمل وبالعكس. وبعد مضي عام اكتشفت انه يستغل وجودها معه لترويج نبتة القات المخدرة، مستغلا العرف الذي يقضي بألا يوقف رجال الشرطة السائق الذي يقل في سيارته امرأة، فاستغنت عنه، واخذت اجازة طويلة من عملها، قبل ان تعثر على سائق سيارة مسن اشتغل لديها 8 أشهر، لكنه اعتذر منها وارسل ابنه (17 سنة) بديلا منه. وبعد بضعة اشهر بدأ الشاب يتحرش بها فتخلت عنه، ولجأت الى احدى الشركات التي تؤجر سائقا مع سيارة، وتكون اجرته اضعافا مضاعفة. لكنها اكتشفت ان الاخير كان يتعاطى المخدرات، والقي القبض عليه في خلوة غير شرعية على احدى الطرق النائية. سعاد لم تكن اوفر حظا من فاطمة، فبعدما تمكنت من استقدام سائق يحمل الجنسية الآسيوية، على رغم القيود التي تفرضها الانظمة السعودية في منع استقدام المرأة السعودية سائقا باسمها، هرب الى اسرة اخرى قدمت له مبلغا مغريا (2500 ريال) مع سكن خاص له. وبدأت بعدها جولة من البحث عن سائق جديد يوصلها الى عملها يوميا».
وترى «الغامدي» ان مشكلة السائقين جراء حظر قيادة السيارة على المرأة السعودية، أصل لعشرات المشاكل الاخرى، ومصدر للكثير من المعاناة، خصوصا اللواتي يجري تعيينهن في مناطق نائية تستغرق فيها رحلة الذهاب والعودة نحو اربع ساعات.
فمثلا، «زهرة – 30 سنة – مُدرسة مادة الرياضيات في منطقة عسير، يقلها سائق ومعها 11 معلمة يُدرّسنَ في المدرسة ذاتها. يخرجن من بيوتهن في الساعة الثالثة فجراً، يقطعن خلالها اودية مخيفة لا يجدن فيها الا الدعاء بعودتهن سالمات».
وبالطبع، لا تعيش كل مدرسات وموظفات السعودية نفس هذه الظروف بعد ظهور بعض الشركات الخاصة وتنافسها في مجال النقل بتكلفة غالبا ما تكون باهظة بالنسبة لرواتب الموظفات. وتعد النساء في المدن الرئيسية الثلاث جدة والرياض والدمام، «اكثر حظاً» من النساء في مناطق اخرى في المملكة.
وقد وجه سؤال للاستفتاء إلى «اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء»، أعلى سلطة من سلطات الإفتاء الديني في المملكة يقول:
«يتقدم أولياء أمور الطالبات اللاتي يدرسن بالدمام التي تبعد عن مدينة الخفجي بحوالي (200) كيلومتر، وذلك لعمل توكيل للسفر بهن إلى الجامعة بالدمام والعودة بهن إلى الخفجي بصفة اجتماعية، وذلك لشخص مع زوجته أو ابنته أو أخته أو أحد محارمه، وينص على ذلك في الوكالة، مثلاً، (وكلت فلاناً وابنته فلانة.. إلخ للسفر بابنتي إلى الدمام والعودة بها مع زميلاتها..).. فما رأي سماحتكم إذا كان السفر بالمرأة أو الطالبات بهذه الصفة الجماعية ووجود أحد محارم قائد السيارة معه؟ كذلك التوكيل على تسلُّم خادمة من المطار والسفر بها إلى مكفولها؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً».
وكان جواب اللجنة كما يلي:
«السفر المذكور لا يجوز، لأنه من دون محرم، كما أن التوكيل لا يصح ولا يفيد شيئاً في ذلك، ولا يحل سفر المرأة من دون محرم. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم».
[فتاوى علماء البلد الحرام: فتاوى شرعية في مسائل عصرية، من إعداد د.خالد بن عبدالرحمن الجريس، الرياض، الطبعة التاسعة، 2009، ص1927].
ويُبدي الفقهاء تشدداً مماثلاً مع المسافرات جواً بين المدن السعودية أو غيرها من دون محرم.
فـ«المرأة منهية عن كل ما يسمى سفراً إلا ومعها زوجها أو ذو محرم لها، سواء كان قليلاً أم كثيراً، وسواء كانت شابة أم عجوزاً، وسواء كان السفر براً أم بحراً أم جواً.. وعلى هذا يكون سفر النساء بالطائرات بلا زوج أو محرم منهياً عنه، سواء كُن طالبات أم غير طالبات». [نفس المرجع، ص1926].
وتساءل الشيخ محمد بن صالح بن العثيمين: «هذا الرجل الذي أراد أن تسافر امرأته بالطائرة، متى يرجع من تشييعها؟ إنه يرجع عند انتظارها ركوب الطائرة، وستبقى في هذه الصالة من دون محرم، ولنفرض أن الرجل دخل معها حتى أدخلها الطائرة، وأقلعت الطائرة، أفلا يمكن أن ترجع الطائرة أثناء الطريق لخلل فني أو للأحوال الجوية. ولنفرض أنها استمرت في سيرها ووصلت إلى المدينة التي ستهبط فيها، ولكن المطار صار مشغولاً أو صارت أجواء المطار غير صالحة للهبوط، ثم انتقلت الطائرة إلى مكان آخر، فهذا محتمل. ولنفرض أن الطائرة قامت في الوقت المقرر، وهبطت في المطار المقرر، لكن المحرم الذي كان ينتظرها لم يحضر بسبب طارئ حدث له. ولنفرض أن هذا الاحتمال انتفى وجاء المحرم في الوقت المقرر، يتبقى عندنا من الخطر: من الذي يكون إلى جنب هذه المرأة في الطائرة؟ فقد يكون إلى جوارها رجل قد يكون أخون عباد الله، يضحك إليها، ويتحدث إليها، ويمزح معها، ويأخذ رقم تليفونها، ويعطيها رقم هاتفه.. فأنا أحذر اخواني من هذه الظاهرة الخطيرة، وهي التساهل في سفر المرأة بلا محرم، كما أحذرهم أيضاً من خلو السائق بالمرأة في السيارة ولو في البلد، لأن الأمر خطير».
غير أن الشيخ «عبدالله بن جبرين» لم ينظر إلى كل هذه الاحتمالات التي يوردها الشيخ «ابن عثيمين» في سفر المرأة بالطائرة من دون محرم، فيقول «إن بعض العلماء كالمالكية، أجازوا أن تحج المرأة مع نسوة ثقات، مع بعد المسافة من المغرب وقرى أفريقيا، الذي قد يستغرق شهراً أو أكثر، حيث ان الحج فريضة، والسفر بلا محرم مظنة فعل الفاحشة، والظن قد يخف أو يزول مع النسوة الثقات، فلا يكون الظن مانعاً للفرض، أما في هذه الأزمنة فقد تقاربت البلاد، ووجدت وسائل النقل المريحة التي تقطع المساحات في زمن قريب، فالذي أراه جواز سفر المرأة في الطائرة، لمدة نصف يوم أو ثلثيه، بحيث يوصلها المحرم الأول إلى المطار، ويتصل بالمحرم الثاني ليستقبلها في البلد الثاني، ولا خلوة في الطائرة، والمرأة كسائر الراكبات، وليس هناك مجال للخوف عليها، والاحتمالات التي تُقدر نادرة الوجود، والأصل السلامة، وهذا يعم السفر للحج وغيره، وهذا ما ترجح عندي رفقاً بالمسلمين» [نفس المرجع، ص1927 – 1930].
وبهذا اتسع المجال للسلطات المسؤولة، بعد أن أبدت الهيئة الدينية بعض المرونة بخصوص سفر المرأة جواً، من أن تسمح للمرأة الموظفة بالاستفادة من ذلك. ولم يتقدم أحد من الفقهاء للأسف برأي مماثل يسمح للمرأة بقيادة سيارتها الشخصية بنفسها.
ففتوى الشيخ «عبدالعزيز بن باز» تقول في حكم قيادة المرأة للسيارة، «إنها تؤدي إلى مفاسد، منها الخلوة المحرمة بالمرأة، ومنها السفور، ومنها الاختلاط بالرجال من دون حذر، ومنها ارتكاب المحظور الذي من أجله حُرمت هذه الأمور. والشرع المطهر منع الوسائل المؤدية إلى المحرم واعتبرها محرمة، وقد أمر الله جل وعلا نساء النبي ونساء المؤمنين بالاستقرار في البيوت والحجاب، وتجنب إظهار الزينة لغير محارمهن، لما يؤدي إليه ذلك كله من الإباحية التي تقضي على المجتمع. فالشرع المطهر منع جميع الأسباب المؤدية إلى الرذيلة، وقيادة المرأة من الأسباب المؤدية إلى ذلك» [ص 1934].
وكانت فتوى الشيخ «محمد بن صالح بن عثيمين»، اشد تفصيلاً واحاطة في المنع. وقد جاء فيها: «ان قيادة المرأة للسيارة تتضمن مفاسد كثيرة، فمن مفاسد هذا: نزع الحجاب، لان قيادة السيارة سيكون بها كشف الوجه الذي هو محل الفتنة، ومحط انظار الرجال. وربما يقول قائل: انه يمكن ان تقود المرأة بدون هذا الحجاب بان تتلثم المرأة وتلبس في عينيها نظارتين سوداوين، والجواب عن ذلك ان يقال: هذا خلاف الواقع من عاشقات قيادة السيارات، وأسأَلْ من شاهدهن في البلاد الاخرى. ومن مفاسد قيادة المرأة للسيارة نزع الحياء منها، وإذا نُزع الحياء من المرأة فلا تسأل عنها. ومن مفاسدها انها سبب لكثرة خروج المرأة من البيت، والبيت خير لها. ومن مفاسدها ان المرأة تكون طليقة تذهب الى ماشاءت ومتى شاءت وحيث شاءت في اي ساعة من ليل او نهار، ومن مفاسد قيادة المرأة للسيارة، انها سبب لتمرد المرأة على اهلها وزوجها، ومن مفاسدها انها سبب للفتنة في مواقف عديدة، مثال ذلك الوقوف عند اشارات الطريق، والوقوف عند محطات البنزين، والوقوف عند نقط التفتيش، والوقوف عند رجال المرور عند تحقيق مخالفة او حادث، والوقوف لتعبئة اطار السيارة بالهواء – البنشر – وفي الوقوف عند خلل يقع في السيارة في اثناء الطريق، ربما تصادف رجلاً سافلاً يساومها على عرضها في تخليصها من محنتها. ومن مفاسد قيادة المرأة للسيارة، كثرة ازدحام السيارات في الشوارع او حرمان بعض الشباب من قيادة السيارات، وهم احق بذلك من المرأة واجدر، ومن مفاسد قيادة المرأة للسيارة كثرة الحوادث، لان المرأة بمقتضى طبيعتها اقل من الرجل حزماً واقصر نظراً واعجز قدرة، فاذا داهمها الخطر عجزت عن التصرف. ومن مفاسدها انها سبب للارهاق في النفقة، فان المرأة بطبيعتها تحب ان تكمل نفسها، فكلما ظهر موديل جديد فسوف تترك الاولى الى هذا الجديد، واما قول السائل: وما رأيكم بالقول ان قيادة المرأة للسيارة اخف ضرراً من ركوبها مع السائق الاجنبي؟ فالذي ارى ان كل واحد منهما فيه ضرر، واحدهما اضر من الثاني من وجه، ولكن ليس هناك ضرورة توجب ارتكاب واحد منها».
واختتم الشيخ ابن عثيمين الفتوى قائلاً: «اعلم انني بسطت القول في هذا الجواب لما حصل من المعمعة والضجة حول قيادة المرأة للسيارة والضغط المكثف على المجتمع السعودي المحافظ على دينه واخلاقه ليستمرئ قيادة المرأة للسيارة ويستسيغها، وهذا ليس بعجيب لو وقع من عدو متربص بهذا البلد الذي هو آخر معقل للاسلام يريد اعداء الاسلام ان يقضوا عليه». (فتاوى علماء البلد الحرام، ص 1937 – 1940).
ومهما كانت وجاهة بعض هذه المحذورات التي تشير اليها الفتوى في مجتمع محافظ لم يتعود الناس فيه حتى الآن الانفتاح العصري والتحرر الاجتماعي ومساهمة المرأة في الحياة العامة والعمل في الدوائر الحكومية والشركات الخاصة، الا ان المملكة العربية السعودية بلا ادنى ريب وسط تحولات سياسية، اجتماعية، ثقافية واسعة باتت تحتم السماح للمرأة بقيادة السيارة في المدينة وفي العمل وفي قضاء حوائجها والاهتمام بأسرتها، فالمتخرجات من الجامعات السعودية بعشرات الآلاف، والموظفات في تزايد، ومعظم الاسر السعودية الجديدة تعتمد على راتب الزوج والزوجة، كما ان التلفون النقال واجهزة تحديد الاماكن وخدمات الطرق وغير ذلك تزيل الكثير من المخاوف.. كما ان المرأة تقود سيارتها بنفسها في كل العالم العربي والاسلامي تقريباً، ولا يمكن ان تبقى المرأة في دولة عربية ذات مكانة متميزة كالمملكة العربية السعودية محرومة من هذا الحق.

خليل علي حيدر
المصدر جريدة الوطن

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.