جاسم بودي: نسكن معاً… أو نتهجّر معاً

عام 1954، هجَّرت السيول الناتجة عن الامطار عدداً كبيراً من سكان الكويت بعدما انهارت بيوتهم الطينية وانجرفت في الماء، فلجأوا إلى المدارس والمنشآت الجاهزة التابعة آنذاك للبلدية ووقفوا في «طوابير المأوى» سائلين الحكومة حل مشكلتهم التي تسببت بها عوامل طبيعية… لكن ما كان غير طبيعي آنذاك أن بعض من في الحكومة قدم المساعدة السريعة لمن يريد وترك الآخرين المنكوبين للبيروقراطية رغم الشكاوى التي صدرت ورغم قلة عدد السكان آنذاك ورغم قدرة التنفيذ التي كانت تمتلكها الحكومة. 

للإنصاف، مشكلة الإسكان في الكويت بدأت قبل 1954، وكانت هناك محاولات متفرقة وغير مدروسة وبلا منظور استراتيجي للتغلب على المشكلة، لكن ما جرى في 1954 يبدو مستمرا حتى اليوم مهما اختلفت الأسباب. فالطلبات الإسكانية هي التي تحولت إلى سيل عارم يكاد يغرق القضية برمتها، والتركيبة السكانية المستندة على العنصر الشبابي بشكل محدد تشي بأن الحلول مسدودة لعدم القدرة على تلبية متطلباتهم.
الإسكان أولوية الكويتيين وأولوية المجلس وأولوية الحكومة… هكذا يفترض في ضوء تقدم القضية على ما عداها. الكثيرون واكبوا الإعلان عن هذه الأولوية بالتصريحات والافتراضات والتحليلات بل عاد البعض لإدخالها في دهاليز السياسة والمصالح الانتخابية الضيقة مثل التهديد بالاستجواب إن لم يخرج المارد من فانوسه السحري ويبني عشرات المدن. شكاوى وتذمرات وتهديدات وتحليلات لكننا لم نسمع سوى من قلة جادة بعض التصورات والحلول. وهذه أيضا من الصفات التي باتت تحكم مجتمعنا الكويتي حيث تكثر الشكاوى بالنسبة إلى قضايا الصحة والمرور والتعليم واعتبار النفط المصدر الوحيد للدخل وغيرها من دون أن نجد دراسات جادة وتصريحات مسؤولة تتحدث عن الدواء لا عن الداء، وعن الحلول لا عن المشاكل، وعن طرق العلاج لا عن تفاصيل المرض.
في الإسكان، رحم الله أهلكم، حاولوا أن تبتعدوا قليلا عن المزايدات لأن القضية أبعادها اجتماعية اقتصادية إنسانية أكثر من كونها سياسية. هي قضية كل بيت وكل شاب وكل فتاة. قضية مستقبل يجمع الأسر تحت سقفه ويوفر على الجيل المقبل الوقت والجهد لاستثمارهما في الإنتاج والتنمية بدل استنفادهما في البحث عن مسكن… قضية صعبة لكن حلها ليس مستحيلا وهو في يد الحكومة بالدرجة الأولى لأن الإطالة تعقد المسألة أكثر.
قبل أن نتوسع في مسؤولية الحكومة يكفي أن استعيد سريعا بعض أسماء الإدارات التي أنشئت لحل المشكلة الإسكانية لتوضيح التخبط الذي طال هذه المسألة منذ ولادتها، فمجلس الإنشاء أنيطت به مهمة المساعدة على حل المشكلة الإسكانية، ثم دائرة أملاك الدولة، ثم لجنة الإسكان، ثم لجنة توزيع المساكن، ثم بنك الائتمان، ثم بنك التسليف والادخار، ثم ضمت دائرة أملاك الحكومة إلى إدارة الإسكان، ثم دائرة الشؤون الاجتماعية، ثم أصبحت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل مرجعا لتلقي الطلبات وتوزيع البيوت، ثم أنشئت الهيئة العامة للإسكان قبل أن تتشكل وزارة خاصة بالإسكان، ثم تشكيل المجلس الأعلى للإسكان برئاسة رئيس مجلس الوزراء، ثم دمجت الهيئة العامة للإسكان مع وزارة الإسكان قبل إنشاء المؤسسة العامة للرعاية السكنية عام 1993.
نترك إحصاء الإدارات والأسماء للحكومة، ونطالب السلطتين بالتفرغ للدراسات المجدية والعمل بذهنية التضامن لإيجاد حل. عليهما جرد مساحات الأراضي التي اصطلح على تسميتها بالمتشابكة شركة النفط بالدرجة الأولى والوزارات، والتفكير في طرق فك الارتباط إضافة إلى تطبيق قانون الأرض الفضاء. المساحة المأهولة في الكويت تشكل في أفضل حالاتها 10 في المئة من مجمل مساحة أراضي الدولة وإقامة المدن الجديدة في الشمال والجنوب والشرق وفق تصاميم حديثة وبنى تحتية متطورة أمر أجدى من التفكير اليومي في سد الفجوة بين المطلوب والمعروض وأكثر استراتيجية من التعامل مع طلبات مبرمج وقتها… 7 في المئة أخرى من مساحة الكويت تكفي إذا فرزت بالشكل الصحيح لتلبية كل الحاجات الإسكانية الحالية لكننا مع المدن الجديدة لا نريد حل مشكلة على قياس الموجود بل تأمين آلية دائمة كي لا تتكرر المشكلة كل عشر سنوات، وهذا طبعا يستدعي توقعات دقيقة لحجم الزيادة السكانية المتوقعة للسنوات الثلاثين أو الأربعين المقبلة.
دول فقيرة. دول جديدة. دول ينخر الفساد إداراتها من رأسها حتى قدميها. دول اكتشفت النفط من فترة بسيطة. دول عدد سكانها بعشرات الملايين… كلها استطاعت ليس بناء مدن جديدة فحسب بل أقامت عواصم جديدة، فهل كانت الكويت قاصرة بكل ما تملك من نعم حباها الله بها؟
الجواب معروف، لكننا اليوم نريد الانطلاق منه الى الحل، والحل بعد فك أسر مشاريع المدن، وفك تشابك الأراضي، وفك الاشتباك المستمر بين المجلس والحكومة، يكمن في إشراك القطاع الخاص الكويتي بقوة في تنفيذ هذه المشاريع لما يتمتع به من خبرة، ولقدرته على الإنجاز في وقت أقل، ولقابليته على السيطرة على أسعار مواد البناء وتخفيض تعاقدات أجور العمالة نظرا الى المنافسة التي ستحصل بين عدد كبير من الشركات، ولفتحه باب التوظيف لقطاعات واسعة من الشبان والشابات في مختلف مجالات العمران (هندسة، تصميم، كهرباء، ماء، زراعة، طرق، بنى تحتية… الخ).
تبقى كلمة الى أصحاب القضية… إلى الشباب أنفسهم. الدنيا تغيرت والحياة العملية المتطورة الحديثة ليست كالحياة التي عاشتها الأجيال التي قبلكم ببساطتها. الزمن تبدل وحجم التركيبة السكانية تضاعف وكان قدركم أن الحكومات والمجالس المتعاقبة ليست بحجم طموحاتكم في حل قضية حيوية مثل الاسكان، لذلك لابد أيضا أن تتغير بعض الذهنيات ولابد ايضا من بعض التنازلات إلى حين انطلاق قطار الحل بالمنظور الاستراتيجي، وأهم هذه التنازلات بالنسبة لحديثي الزواج أو الراغبين في أسر صغيرة نسبيا ألا يقارنوا بين المساحات التي سيسكنون بها ومساحات البيوت التي سكنها آباؤهم، وأن يكونوا عمليين في اختيار أماكن سكن قريبة من أعمالهم ووظائفهم، وأن يقتنعوا أن الشقق يمكن أن تكون أيضا بيوتا جميلة.
أشياء كثيرة يمكن أن تتصحح في الكويت إذا انكسرت أو انهارت أو جرفتها عوامل الطبيعة كما حصل في سنة 1954، إلا الإنسان الكويتي، فاذا انكسر لا سمح الله بفعل أخطاء وتقاعس وقلة مسؤولية المجلسين، فإن السيل البشري هذه المرة لن تكون وجهته الهجرة أو السكن اضطراريا في المدارس أو بيوت البلدية… بل ستكون وجهته الحكومة وشعاره «نسكن معا أو نتهجر معا».

جاسم بودي
المصدر جريدة الراي

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.