يبدو الشاب عاديا في سلوكه، سائرا في دروب مرحلته العمرية، متبنيا للكثير من انواع الفكر واشكال السلوك المعتادة، ثم ينقلب رأسا على عقب، ويتغير فيه الفكر والسلوك، فنقول انه تعرض «لغسيل دماغ». وفي الكثير من حالات التطرف الديني والارهاب، يتردد الحديث عن هذا العرض او الحدث الذي يقال انه المسؤول عن قلب كيان الكثيرين، وجعلهم يسيرون في دروب التطرف، فهل هذا ما يقع حقا للشباب؟ ام ان الكثير من معطيات وافكار التشدد والتعصب موجودة في حياتنا وافكارنا ومدارسنا وثقافتنا وتربيتنا، ثم يطرأ عامل ما، «يكثف» هذه القطرات ويجمع هذه الخيوط في عقل الشخص، فينقلب الى شخص خطر على نفسه.. وعلى الآخرين؟
يقول النفسانيون ان «غسيل الدماغ» عملية تشمل الهدم والبناء، وطرد مجموعة من الافكار والخبرات والمواقف والامتلاء بأفكار جديدة غير معتادة للشخص تحت تأثير ظروف ما او مخطط مقصود. ويقال ان بعض خيوط «غسيل الدماغ» كظاهرة، عرفت في مختبرات عالم الاعصاب الروسي الشهير «بافلوف»، الرائد في ميدان الفسيولوجيا والعصارات الهضمية والانعكاسات، والحائز على جائزة نوبل عام 1904، حيث كان يجري تجارب كثيرة على الكلاب والاغنام وغيرها، ويدرس الانعكاسات الغريزية فيها من جوع او عطش. ويقول الاخصائي المعروف د.فخري الدباغ ان الكلاب كانت في اقفاصها بمختبرات بافلوف في «ليننغراد»، عندما حدث فيضان شهير عام 1924، وانساب الماء من تحت ابواب المختبر وارتفع في اقفاص الكلاب السجينة حتى بلغ رقابها، فتملكها الرعب واستبد بها الهيجان، وكادت ان تموت غرقا لولا قدوم احد مساعدي «بافلوف» في اللحظة الاخيرة. وجاء «بافلوف» الى كلابه بعدئذ ليكمل تجاربه، فوجد ان غالبيتها قد نسيت او فقدت العادات التي تعلمتها، واصبحت في حالة مشوشة، وكأن خلايا دماغها قد «غُسلت» أو نُظِّفت من كل التجارب التي كان قد اجراها عليها العالم الروسي. وهكذا اصبح بالامكان خلق ظروف واصطناع حوادث مهددة او مثبطة، كفيضان لينينغراد، لإحداث حالة من التهييج العقلي او الاعصاب او بالاحرى «غسيل دماغ» للحيوانات تحت التجربة، من قطط وفئران وارانب وقردة. وتبلور رأي علمي يقول ان الانسان يمتلك انعكاسات وغرائز اولية خلقية، تبني تجاربه عليها عادات وانعكاسات جديدة قد لا تكون ثابتة خالدة، فهي عرضة للاهتزاز والاضمحلال تحت بعض الضغوط، فتصبح خلايا الدماغ عاجزة عن الاحتفاظ بما اختزنته من عادات، بل ان مقاومتها للاذى والتهديد قد تنقلب الى تقبل اشد واستسلام اسرع وانعكاسات غريبة.
ولاحظ علماء النفس ان الجنود في الحربين العالميتين فقدوا توازنهم وشجاعتهم في بعض حالات التهييج العصبي، جعلت من سلوكم نماذج طفولية، وفقدوا كل القشرة التربوية والسلوك الحضاري. كما رفض بعض الاسرى العودة الى بلادهم وآثروا البقاء في الصين وكوريا الشمالية.
اتيح المجال اذن لتدمير شخصية انسان ما و«غسل دماغه»، كي يكون جاهزا لخبرات اخرى وشخصية جديدة. ويقول د.الدباغ ان بعض اشكال غسيل الدماغ قد نلمسها في حياتنا اليومية، «منها ما تسلكه الشركات والمحلات التجارية عن طريق الصحف او السينما او التلفزيون، من وسائل الدعاية والاقناع بأهمية وفائدة منتجاتها». ولكن هل الدعاية التجارية حقا غسيل دماغ؟ وتستخدم بحوث غسيل الدماغ في شفاء الجنود من تجارب مروعة مثل «صدمة القنبلة» باستخدام بعض المواد والمهدئات. ويصف الكاتب الانجليزي المعروف ألدوس هكسلي Huxely في كتابه «مداخل الاحساس» The Doors of Perception، الصادر عام 1959، تجاربه العقلية والحسية بعد ان تناول احدى تلك المواد ذات التأثير الفعال على الدماغ وهي مادة «الميسكالين» Mescaline.
ويقول د. الدباغ ان الاطباء النفسيين الذين لا يؤمنون بمدارس ونظريات التحليل النفسي واللا شعور، «يتهمون زملاءهم المحللين النفسانيين بأن ما يقومون به من علاج نفسي انما هو «غسل دماغ» و«تحويل افكار» يجري بين المحلل ومريضه.. والنتيجة هي ان «يتحول» المريض الى ما يريده الطبيب، وهو المطلوب في العلاج النفسي»! والحقيقة، يكمل د.الدباغ، «ان هذا التفسير التهكمي لا ينقص شيئا من قيمة التحليل النفسي وأهميته، كما ان عليه ردودا مقنعة ليس هنا مجال بحثها».
وفي كتاب «موسوعة السلوك البشري» The Encyclopedia Human Behavior,By Robert Goldenson, usa, 1970 تحت مادة غسيل الدماغ Brainwashing، وما تعرضه تلك الموسوعة من المراجع معلومات ثرية حول المادة وبخاصة ما يتعلق بالجوانب العسكرية.
والآن، هل درس احد من النفسانيين في العالم العربي او الاسلامي او غيره، صحة وخطأ ما يقال عن «غسيل دماغ» بعض «الجهاديين» والقائمين بالعمليات الانتحارية، وبخاصة أن لدينا حالات فشلت فيها المحاولة الارهابية ونجا الانتحاري وتم ايداعه السجن!
كيف يتم تدمير حب الحياة او البقاء في دماغ هذا الانسان؟ وهل يكفي الحديث عن النعيم الاخروي كي يندفع ويستسلم للتنظيم الارهابي ويرضى بهذه الميتة الشنيعة؟ ولماذا لا يقدم بقية المسلمين الذين يحملون نفس الايمان بما ينتظر الشهيد، على نفس العملية؟ كيف اذن يتم اعداد هذا الانتحاري الارهابي كي يقدم على تفجير نفسه وقتل عشرات الآخرين من عامة الناس رجالا ونساء واطفالا، ممن يصدف وجودهم في «ميدان جهاد» هذا الانتحاري؟
ان بعض جماعات الاسلام السياسي مثلا تدرِّب شبابها على ارتداء الاكفان وعلى النوم في المقابر والقبور، واخرى تخضع افرادها لتجارب قاسية اخرى، فهل تندرج هذه كلها تحت مقدمات «غسيل الدماغ»؟ انه ميدان كامل بكر للبحوث والدراسات النفسية، ولكن اين علماء النفس العرب والمسلمين؟!
خليل علي حيدر
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق