ما كنت أتمنى أن أرثيك وأنت الأغلى فينا دائما. يستقبلني وجهك البشوش صباحا فأحمد الله على نعمة التفاؤل، وتستقبلني سماحتك ظهرا فأحمد الله على نعمة التسامح، وتستقبلني ابتسامتك مساء فأحمد الله على نعمة الصبر… تعيش معنا. بيننا. فينا. فنحمد الله على نعم الابوة والرعاية والتواضع والطيبة.
عمي مصطفى بودي، بل والدي مصطفى بودي… هل حقا رحلت؟
يوم توفي والدي مرزوق وأنا في التاسعة من عمري كان جل همك ألا أشعر بأسى اليتم. احتضنتني وأخي وأختي والدا بكل ما للكلمة من معنى. كنت أبي ومعلمي وأستاذي ومرشدي. رسمت خبرتك طريق الحياة لي فلم أتعب من الاستزادة منها كلما التقيتك. رافقتني يداك إلى العلم والمعرفة والعمل والعطاء، وأودعتني حكمتك سر الصبر والحلم والطموح، وأنارت لي رؤيتك ما كان خافيا علي في الدروب. عوضتني الكثير الكثير وأنا صغير، وعلمتني الكثير الكثير وأنا كبير … ثم سافرت إلى دنيا الحق تاركا لي حق الدنيا في السفر إلى الذكرى والتحسر.
وجهتني في العلم والعمل وكنت الأقرب إلي. أدمنت الاستعانة بك في كل شيء، في المسرات كما في الملمات. لا أتذكر أنني فكرت في نصيحة من أحد غيرك كلما احتجتها، ولا أتذكر أنني استعنت بغيرك عندما تطلب الأمر، ولا أتذكر أنني سبقت أحدا قبلك في تبليغه خبرا مفرحا.
في شريط الذاكرة أنت الحاضر لحظة بلحظة، إما بجسدك وإما بروحك وإما بنصائحك. موجود في لحظات سعادتي كما في لحظات همومي أو غضبي. كنت أول من يهنئ وأول من يواسي وأول من ينصح وأول من أشاركه كل خبر وكل مسرة وكل هم… كنت دائماً قربي… كنت الأقرب.
اتسع صدرك لكل ما كنت أقوله. لمواقفي وآرائي وانفعالاتي. تسمعني حتى النهاية ثم تعطيني رأيك بهدوء. أحياناً بالكلام، وأحياناً بالنظر، وأحيانا بالابتسام، وأحيانا بالتربيت على كتفي… وكان رأيك دائما هو الاصح ورؤيتك هي الأدق.
شاركتني كل لحظات حياتي، ولا أعرف لحظة لم تكللها بحضورك، منذ الطفولة حتى التخرج فالعمل. مرورا بما دار بيننا من حديث ونحن متوجهون سويا للتقدم لشريكة حياتي، وبعد ذلك كيف كانت ردة فعلك عندما بشرتك بأن الله رزقني بولد سيحمل اسم شقيقك وحبيبك مرزوق.
كنت الحامي والداعم والمحب. فرحك لايوصف متى ما شعرت أن من حولك سعداء، وألمك لا يوصف إن أحسست أن أحدهم أصابه مكروه… كنا نخفي عنك خبر ارتفاع حرارة أحد أحفادك كي لا تجزع وتنهمر دمعتك، فماذا سنقول لأحفادك اليوم وعيونهم تغرق في بحر الدموع؟
لا نكتب، نحن أبناؤك، سيرتك إلا بحبر الدمع… بالحرقة… أنت الذي كنت مثلنا الأعلى في كل شيء. أنت الذي علمتنا كل شيء يليق بمظلتك وقامتك. علمتنا الرقي في التصرف، والترفع في المواجهات، ووصل ما انقطع، والمبادرة في الاتفاق، ونبذ الفرقة والخلاف، والرد على محاولات التشتيت بالعمل والعمل وحده… كم من قضية اختصرتها ببيت شعر أو مثل أو حكمة، وكم من مشكلة حللتها بنظرة، وكم من أزمة اختفت عند حضورك.
علمتنا كيف نحب دائما الكويت التي عشتها وعايشتها. كويت المختلفة. كيف نراهن فقط على عودتها من خلال السير في طرق القيم نفسها التي سرت وأقرانك عليها. ولا أنسى، ولن أنسى، ما قلته لي صبيحة يوم قائظ من أيام شهر اغسطس عام 1990 ونحن نقف في مركز الرقعي الحدودي السعودي ووجهك يتطلع إلى الكويت.
ديوانك منبر وطني عام، ومجلسك مساحة لا متناهية للسياسة والثقافة والتاريخ، ومحضرك كتاب موسوعي نغرف منه بنهم خصوصا عندما يأتي الحديث عن لبنان الذي تخرجت في مدارسه والذي تعرف عن تاريخه السياسي الحديث اكثر مما يعرفه اللبنانيون أنفسهم… حفرت اسمك في منابع الرعيل الاولى وتجاوزت مسيرتك سيرة العائلة إلى حاضر الكويت ومستقبلها.
تغيب عنا فلا نملك الا القول (إنا لله وإنا إليه راجعون)، لكن حسرة الفراق كبيرة يا والدي. حق للقدر أن يستعيدك في اللحظة التي اختارها إنما قدرنا أيضا أن نستحضر ذكراك بالدمع. بالأسى. بالوجد. بالألم، فسراجك لا يطفئه غياب وحضورك لا يواريه رحيل.
كل وصاياك في القلب وستنفذ كما تمنيت… وصورتك لن تغيب عن عيني ماحييت.
في السنوات الأخيرة رحل عدد من أكثر من تحب من عائلتك وأصدقائك، وكنت أحس بشعور الفراق لديك لكنني الآن فقط أحسست بألم ذلك الشعور.
ما كنت أتمنى أن أرثيك وأنت الأغلى فينا، لكن الدمع يهزم التماسك. ينتصر عليه بالضربة القاضية. يكتب بحرقة القلب مرثية الرحيل.
توفي والدي وأنا في سن التاسعة، وجهدت يا عمي، يا حبيبي، يا والدي، كي لا أشعر بأسى اليتم، لكنني اليوم فقط وبعد كل هذه السنين أشعر للمرة الأولى في حياتي بمعنى اليتم.
إلى جنة الخلد يا عمي مصطفى… إلى جنة الخلد يا والدي… إلى جنة الخلد يا حبيبي.
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق