هديل الحويل: قصة فستانها الأزرق

استيقظت على صوت منبه هاتفها النقال يعلن بدء يوم عمل آخر, دفعت بالنعاس بعيدا عنها وهي تجرد نفسها مما يغطيها. كانت ترتدي بيجامة قطنية من قطعتين رماديتين سترت أولاهما كل شيء إلا عنقها, وكشفت الثانية عن كل شيء فبانت ساقاها طويلتين ممشوقتين وهما ترتجلان عن علو سريرها وتطآن الأرض.
أمسكت برباط ولفته حول خصلات شعرها الأسود الطويل بحركة تحترف تطويع شعر طالت عشرتها معه, أخذت حماما دافئا ومرغت جسدها الممشوق برغوة برائحة اللافندر. غسلت وجهها بمستحضر عالمي ثمين يحفظ لها نضارة ما أعطاها الله من صفاء في الوجه, لحقت الغسول بمنظف خاص يفتح المسام على مصراعيها لتشرق البشرة في وجه صباح باكر ومضيء, زادت على ليونة خدها ووضعت مرطبا منعما وواقياً من أشعة الشمس.
توجهت إلى خزانة ملابسها ومدت يدها لتلتقط ما شاء الحظ لها أن تلبس في ذلك اليوم, فستان أزرق طويل وصيفي تعلوه ورود بيضاء صغيرة زينت ياقته التي انحسرت عن رقبتها لتتوسط صدرها, وورود أصغر تقف عند أطراف الفستان كأنها تحرس زرقته. وضعت قليلا من عطر “نارسيسو رودريغس” بين نهديها وخلف أذنيها وعلى رسغيها, وأسدلت شعرها وتركته يأخذ شكل نفسه من دون أن تتدخل أصابعها لتقتحم خصوصيته أو تحاول فك تشابكه, علقت قرطين ماسيين صغيرين أبى جسدها أن يتحلى بغيرهما, وأمسكت بحقيبة بنية وهي تحاول أن توازن قدميها لتستريح الواحدة منهما تلو الأخرى وسط حذاء بني عال.
ملأ عطرها مركبتها وهي تتوجه إلى أقرب مقهى لاقتناص موعد قصير مع قهوة صباحية دافئة, وهي على أعتاب المقهى رمقتها بائعة المحل الآسيوية بنظرة إعجاب وهي تقول:
“waw mam ..I think you are beautiful”
فابتسمت شاكرة. عندما هم البائع أن يناولها قهوتها أبدى إعجابه بإطلالتها الصباحية وابتسامتها الحيوية, فقابلت اطراءه بابتسامة أكثر سخاء وهي تقول: .Thank you
تركت البائعين خلفها يهمسان لبعضهما بعضاً, وتركت المقهى مبتسمة ومستبشرة بصباح ملؤه إيجابية. عند بوابة الجامعة تركت سيارتها تركن إلى الظل واعتلت كعبيها بخفة متوجهة إلى باب أحد الفصول. ألقت تحية الصباح بكثرة ما استقبلتها. على يمين باب الفصل سكنت طالبتان على كرسيين تسأل الواحدة منهما الأخرى:
– ما أرشق جسدها, أ تراها تمارس الرياضة?
لا أدري لكنها حتما تعتني بنفسها.
– هي بالتأكيد لم تتزوج أو تنجب وإلا!
ألا تعلمين أنها أم لطفلين? أصغرهما سيبلغ السادسة قريبا?
– أم لطفلين وهي أرشق وأكثر نضارة منا مجتمعتين?
زوجها يدرس كذلك ولكن في جامعة أخرى.
– وهل هو بقدر وسامتها وحسن طلتها?
لا أبداً… هو إنسان قصير وسمين وعبوس… بل ومكروه, إلا أن من قابل طفليها بشر بأنهما يحذوان حذو أمهما.
وأطلقت كل منهما ضحكة حاولت الأخرى كتمها, ومع انحسار المسافة التي تفصلهما عن مدرستهما, وقفت الطالبتان لتلقيا التحية واستجابت هي بتحية أدفأ منها وأومأت لهما بدخول الفصل. أراحت مفاتيحها على طاولة الفصل تماما الى جانب حقيبتها وانشغلت بجهاز الكومبيوتر استعداداً لعرض ملف توضيحي على طلبتها. في آخر الصفوف جلس طالبان يهمس أحدهما لزميله:
– ترى ما رائحة عطرها التي ملأت الكون للتو?
لا أعلم.. ولو لم أكن أخجل لسألتها.
بصوت هادئ وجاد تنادي باسميهما “علي.. فيصل… أرجو منكما التزام الهدوء” وتبدأ مع الفصل مشوار رحلة في بحور الأدب المقارن على بساط لغوي عذب لزم عنده ومعه السكوت والإنصات. وتنتهي المحاضرة ليقبل عليها علي وفيصل باعتذار:
– علي: آسف دكتوره لم أكن أقصد الإزعاج إلا أن فيصل كان يسألني.
فيصل: يكذب يا دكتورة هو الذي سألني ما إذا كنت أتعرف على عطرك والله.
– فتضحك وهي تقول: وهل عرفته يا فيصل?
فيصل: أبدا يا دكتورة وقد أردت أن أسألك بالفعل.
– هي: أخبرك بشرط.
علي: اشرطي ما شئت.
– هي: أن يشتريه كل منكما هدية لوالدته في عيد الأم غدا.
فيصل: حاضر.
– علي: حاضر دكتورة تم.
تبتسم للاثنين راضية وتتركهما يودعانها, وعلي يأمر فيصل ان يسجل اسم العطر قبل أن ينسياه, وهي تصد عنهما لتكشف عن أسنان أبت إلا أن تفصح عن ضحكة مكتومة وفرحة.
ينتهي يومها قبل ان يجف عطرها, وها هي تفتح باب المنزل استنجادا ببرودته عن نهار صيفي وحار, تدخل من الباب, ترمي مفاتيحها على منضدة قريبة, تلقي بالسلام على زوجها الساكن إلى جهاز التحكم بالتلفزيون, ينظر إليها طويلا ثم يسأل:
– ألا تخجلين من ارتداء فساتين الصغيرات هذه? ألا تدركين ما بك من عمر? ولم لم تستحمي بقارورة العطر إن كنت تريدين لنا أن نختنق بذوقك فيه?
تستمر في مشيها وهي تخلع كعبيها وتفتح باباً صغيراً يطل على عالم كبير, تنحني لتقبل خد صغيرها النائم, يفتح عينيه ويبتسم لها فتجيبه بابتسامة أعرض وهي تسأل:
– هي: مرحبا بحبيبي, لا تنم قبل أن تأكل, أين أخاك?
هو: عند جدتي في الأسفل ينتظرنا على الغداء.. أمي?
– هي: نعم يا أمي?
هو: أنت أجمل ما خلق ربي وأعطر ما صنع.
تحيط وجهه براحة يديها وتلامس بعطر أنفاسها جبينه وهي تغالب دموعها ثم تنظر في عينيه وتقول: بك دنياي جميلة ولأنك فيها… أبتسم.

h_alhuwail@yahoo.com
المصدر جريدة السياسة

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.