من اكثر أنواع “التسهيلات” التكنولوجية والالكترونية والرقمية التي أضيق بها هو ما يقع تحت مسميات مختلفة كالهاتف النقال أو الجهاز الذكي, حتى انني من فرط ضيقي أمحو منه ومن عليه كل ملامح الذكاء التي يتغنى بها العموم ويتسابق إلى تحميلها, ولا أدعي ما أنا على وشك التصريح به, لكنني – ولست وحيدة بشعوري هذا- أسعد عقلا واريح ضميرا وأنفه نفسا من دون هذا الجهاز الذي وإن كان ذكيا إلا أنه يحمل معه كثيرا من سذاجة وضحالة مستخدميه, فيلقيها حملا ثقيلا على يومي, وألخص أسباب ضيقي شخصيا ومن يشبهني بهذا الجهاز بالتالي:
أولا: يضيف هذا الجهاز نفسه إلى قائمة طويلة بالحاجيات التي يتحتم علي بحكمي امرأة أولا, وأماً ثانيا أن أحملها, فيكون حملي للجهاز بوجوب حملي لعلبة صغيرة من محارم ورقية في مناخ الكويت “الصفري” حاليا أثناء خروجي مع صغاري, وإلا كانت العقبى وخيمة وقاسية بقسوة أنوف طفلة يغزوها الرشح ولا تجد محرمة تعطس مخاطها فيها. ويكون نسياني للجهاز لأي سبب كان قسريا او جبريا أو قهريا خطأ فادحا أستحق عليه التوبيخ والتأنيب من أم أو زوج أو صديق كما لو كنت قد خلفت من بعدي إرثا أورثتنيه الحياة, فزادت على قائمتي مهمات تتلخص في الرد على المتصل وإجابة المرسل والتعليق على الكاتب, الأمر الذي يسرع من طرق طبول الواجب الجديد بإيقاعه المزعج, ويبطئ من انتاجيتي الفكرية.
ثانيا: أن الناس ظنت مع الهاتف النقال أن لها حقا علينا أكثر من حق الصحبة والرفقة وصلة الرحم لمجرد أننا قررنا أن نمتلك هذا الجهاز, فلا يحق لي بعد أن قررت امتلاكه من التمتع بيوم أو اثنين أبتعد فيهما عن المطالبات الاجتماعية, ولا يحق لي اقفاله عن أم هو وسيلتها للاطمئنان علي في زمن بات لا يرد على هاتف المنزل فيه سوى الخدم, ولا يحق لي أن أتمتع بوجبة في صحبة من اخترت أن أكون معه دون غيره, ولا يحق لي أن أهمل الرسائل ولا أن أتغاضى عن اتصال أو أتناسى رسالة تأمرني بموجب اجتماعي إلا وكنت عرضة لمسلخ اجتماعي يبيح جلدي للتأنيب والتوبيخ والسلاطة اللفظية.
ثالثا: أنني من المدعين بسعيهم الدائم الى بلوغ الانتاج وتحقيق الهدف, فلا أجلس خالية في عملي ولا أستلقي مستريحة في بيتي مع صغاري, فأنا ممن تقودهم الرغبة الدائمة لإتمام المهمات وإنجاز المطلوب, وعليه تكون أوقات الراحة التي اختارتها لنا الطبيعة من مساء وليل عزيزة لدي وقيمة, وقد كنت أقضيها في صحبة كتاب أو رفقة موسيقى, حتى كثرت الهواتف النقالة وتوزعت الأجهزة الذكية التي فرضت علي – عرفا- أن أقضي وقتي المستقطع من يومي الطويل في قراءة رسائل الناس, والرد على مكالماتهم, وإتمام مطالبهم التي أوشكت أن تكون أهم من مطالبي وحاجتي للاختلاء بنفسي, أو هكذا يرغبون.
رابعا: أن الناس اعتادت أن يكون أمامها, أو على مسمعها, أو بيدها ما يلهيها, فلا هم عرفوا السكون ولا احترموا طاقة السكوت وحقه في الوجود, فتجد الراديو يعمل في “الاسانسير”, والمسجلة تعمل في السيارة, والجهاز الذكي يعمل في دور الراحة, وفي اللقاءات الاجتماعية الفرحة منها والحزينة وفي كل مكان وأي وقت من الزمان, فلا عرفوا طعما لمشاركة أحدهم دقائق ساكنة عن أي شيء, ولا تمتعوا براحة الهدوء, ولا استنشقوا شهيق الصمت في صحبة أنفسهم, فباتوا مشغولين بغيرهم عن أنفسهم.
لتلك الأسباب وغيرها أضيق بالجهاز الذكي وأتعمد إهماله وعدم الاتكال عليه في التواصل مع الآخرين, كما أتعمد عدم اعطائه المساحة التي تمكنه من منعي عن الاتصال بنفسي وقت ما تسنى لي. قد يراني البعض سلبية في تعاطي مع الأجهزة الذكية, وقد يراني البعض الآخر متخلفة عن ركب التقدم والتواصل الاجتماعي بمفهومه الحديث, إلا أنني – وكثيرين معي- نرى أن في الارتباط بطرف حبل “التواصل الاجتماعي الحديث” يلزمنا جسديا ونفسيا أن نرخي قبضتنا عن الطرف الآخر “التواصل الإنساني”, وهو الطرف الأعمق والأدوم والأحق بقبضتنا من وجهة نظري.
h_alhuwail@yahoo.com
المصدر جريدة السياسة
قم بكتابة اول تعليق