«لكل دولة موقفها من التطورات في المنطقة… ولكل دولة مقاربتها الأخلاقية لهذا الموقف».
العبارة السابقة التي قالها وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل لنظيره الأميركي جون كيري بدت وكأنها الدرس الأساسي الذي أرادت الرياض تلقينه لواشنطن على امتداد المراحل التاريخية المختلفة للعلاقات بين المملكة والولايات المتحدة.
المقاربة الأخلاقية؟… «صعبة شوية» على أميركا التي لم تكشف انحيازها للمصالح قبل المبادئ كما كشفته في ولايتي الرئيس باراك اوباما الذي احتلت محاضراته «الأخلاقية» العالم فيما كانت سياساته عكس ذلك تماما.
«أخلاق»؟ أليس أوباما من قال إن اكتشافات النفط والغاز الجديدة ومصادر الطاقة المتعددة من الشمس الى الصخر ستجعل أميركا تتحدث عن شرق أوسط آخر وعلاقات أخرى؟ ألم نسمع أمس من مستشارته لشؤون الأمن القومي سوزان رايس أن منطقة الشرق الأوسط واحدة من مناطق كثيرة في العالم ملمحة إلى أن لا ضرورة لاعتبارها بين الأولويات؟
وبين تقدم مصالح أميركا كأولوية على المبادئ وسقوط الشرق الأوسط من أولويات السياسة الخارجية الأميركية، وجدت دول الشرق الأوسط والخليج تحديدا نفسها أمام مقاربات «جمبازية» متقلبة من دولة عظمى في ما يتعلق بالمنطقة وأمنها واستقرارها ومستقبلها. هنا تأييد لديموقراطية وهناك تأييد لديكتاتورية. هنا تقوم الدنيا ولا تقعد من أجل قطع إنترنت عن متظاهرين وهناك تنام الدنيا نومة أهل الكهف عن إبادات جماعية. هنا الدعم مرتبط بوجود أشخاص ومؤسسات وهناك مؤسسات يغيب عنها الدعم لغياب أشخاص بعينهم. هنا على الرئيس أن يرحل فورا «وفورا تعني أمس» وهناك للرئيس دور أساسي في ترتيب السلطة. هنا النووي خطر وهناك النووي ضرورة، بل إن النووي نفسه يخرج من دائرة الخطر إن أعطيت ضمانات لأمن إسرائيل… وتترك دول المنطقة بين مفاعلين نوويين تستجدي إما الحماية الدائمة، وإما التحالفات السريعة المشوهة، وإما تترك لقدرها بين أطماع وفتن وشهية الآخرين المفتوحة دائما على التوسع والتمدد.
لم تكن المملكة العربية السعودية بعيدة عن الهوية الفعلية للتحرك الأميركي في المنطقة منذ عقود. خصوصا بين خطوط النار الإسرائيلية والأفغانية والإيرانية والعراقية… واليوم السورية. لا يخفى على مسؤولين وديبلوماسيين مخضرمين خبروا السياسة الأميركية عن قرب وجالوا في دهاليزها الفرق بين «الخطأ في الحساب» وبين «الخطأ المحسوب». لكنهم حاولوا بكل الوسائل الأخلاقية التي يمتلكونها «ترشيد» التحرك الأميركي وتحذير واشنطن من مغبة هذه الخطوة أو تلك.
كانت الرياض تتساءل دائما ليس عن إخراج السوفيات من أفغانستان فحسب بل عن مستقبل أفغانستان ما بعد السوفيات لأنها تعرف أن لكل زلزال ارتدادات، وكان البيت الأبيض يعتبر أنه كسب الحرب الباردة وليس مستعداً لحروب حارة طالما أن أفغانستان بعيدة عن حدوده إلى أن وصلت الارتدادات إليه في 11 سبتمبر ورسمت خريطة جديدة للمنطقة وللعلاقات الدولية.
وكانت الرياض تتساءل دائما ليس عن انتهاء الحرب الإيرانية – العراقية فحسب بل عن جوهر الموقف الأميركي منها ومستقبل علاقات الجوار في المنطقة في ظل التدمير الفعلي لمقدرات عربية وإسلامية خصوصا مع انكشاف أمر بيع السلاح للطرفين من مصدر وأحد. انتهت الحرب بطرف اعتقد أنه انتصر بسلاحه وخطابه القومي وبطرف اعتقد أنه انتصر بسلاحه وخطابه الإسلامي، و«النصران» كان لابد أن «يصرفا» إقليميا. وصل صدام حسين الى الكويت وخرج منها بالقوة وتمددت إيران الى المتوسط… وما زالت هناك.
وكانت الرياض تتساءل ليس عن إطاحة صدام فحسب بل عن عراق المستقبل وعلاقاته مع منظومته الإقليمية. كانت ترى المقاتلات الأميركية تعبر الأجواء الإيرانية لاحتلال العراق وكانت تقول للمسؤولين الأميركيين إن من يفتح أجواءه لطائرات «الشيطان الأكبر» هو الذي سيرث النفوذ وليس «الشيطان» نفسه، وعندما أصر الأميركيون على سياسة «الخطأ المحسوب» قدم الأمير سعود الفيصل محاضرته الطويلة عن المنطقة وخريطتها السياسية والاجتماعية وقارن بين تطور «الكاوبويز» وتطور بعض المجتمعات البدوية وتحدث عن صعوبة تعامل جنرالات المارينز مع قبائل العراق وعشائره. وكأنه يقول لسيد البيت الأبيض إنه فتح الباب واسعا ليتعامل غيره بسهولة أكبر مع هذه العشائر والقبائل… والطوائف والمذاهب.
وكانت الرياض تتساءل ليس عن تغيير بعض الأنظمة في ما عرف بالربيع العربي فحسب بل عن مستقبل الدول والشعوب والمجتمعات. عن الاستقرار والتنمية. عن أثمان الانتقال من مرحلة إلى أخرى وجدية واشنطن في دعم الدول والمجتمعات أكثر من دعم أشخاص أحزاب وأجندات. وكم هي المفارقة واضحة بين التغيير الذي لعبت الرياض ومنظومة دول الخليج دوراً في رعايته (مثل اليمن) والتغيير الذي أداره رعاة البقر وما زالوا يديرونه بالمنظومة الدولية القائمة.
في ظل الأسئلة السعودية الدائمة والاجابات الأميركية الغائبة أو المغيبة عمداً، وجهت المملكة رسالة غير مسبوقة الى العالم عبر انسحابها من عضوية مجلس الأمن احتجاجا على عجز أو تواطؤ أو لا مبالاة العالم بقضايا المنطقة وقضايا انسانها على وجه التحديد. وعلى رغم أن الأمير سعود الفيصل استخدم ديبلوماسيته الرائعة في التعبير عن الخلاف السعودي – الأميركي بالقول إن العلاقات الحقيقية لا تقوم على المجاملة بل على الصراحة والمكاشفة، إلا أن المكاشفة لا تكفي لتغطية المكشوف والمستور في تصرفات الأميركيين، ولا تنفي أن الرياض ما كانت تريد استقبال كيري لولا حرصها على عدم إسقاط أي أمل يمكن أن يوقف نزيف الدم السوري.
رهان الرياض على مقاربة أخلاقية أميركية لقضايا المنطقة خاسر، ومع ذلك تستمر في محاولاتها أملا في صحوة ضمير. صحراؤنا غير واحاتهم… لكن واحاتهم مليئة أكثر بالسراب.
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق