مللنا ومل الجميع من «دولة الكلام» التي نعيش في ظلها منذ عقود. كلام… سوالف… قصص… اشاعات… فبركات… امتلأ الفضاء الواقعي بها وكذلك العالم الافتراضي القائم على وسائط التواصل الاجتماعي.
والظاهرة الصوتية لم تعد مقتصرة للأسف على السياسيين بمختلف أنواعهم بل امتدت إلى النخب الاخرى التي وجدت أن لا أمل يرتجى من الطبقة السياسية، فانحازت هي الأخرى الى «دولة الكلام» منخرطة في نشاطاته سواء كان ذلك في الدواوين أو المقاهي أو بالرسائل الالكترونية حتى خلال قيادة السيارة… ومع ذلك تتحمل الطبقة السياسية مسؤولية هذه الظاهرة كونها المثال الذي يجب أن يحتذى.
لأسباب كثيرة (وربما عن عمد) تنحصر غالبية تفاصيل الحياة السياسية في الكويت بين دفتي الحكومة وحلفائها ومعارضيها من جهة والمجلس وما يضمه من موالين ومعارضين من جهة اخرى. طبعا لا احزاب ناشطة ولا برامج قادرة ولا تيارات متحركة ولا مجتمعا مدنيا فاعلا. عموما هذا موضوع آخر لن تدفعنا الاشارة اليه في هذه العجالة الى حرفنا عن جوهر المقال، وجوهر المقال ان دفتي الحياة السياسية التي تحدثنا عنهما تختلفان ظاهريا لكنهما تتفقان في العمق والواقع.
لنشرح أكثر.
الكويت أمامها مشكلة أساسية تتعلق بالتطور والتقدم وكسر الجمود واطلاق عجلة الانتاج وتنفيذ المشاريع. أمامها تحذير واضح لا لبس فيه يتعلق بحتمية الوصول خلال سنوات قليلة فقط، اكرر سنوات قليلة فقط، الى مرحلة قد نشهد فيها عجزا في التوازن بين المداخيل والمصاريف حتى ولو بقيت اسعار النفط مرتفعة نسبيا، في ظل عاملين أساسيين: الاعتماد على مصدر واحد للدخل، والتكدس الوظيفي في القطاع العام الذي سيؤدي الى الافلاس. هذا العجز لن يؤدي الى مشاكل اقتصادية مألوفة فحسب بل قد تكون له نتائج كارثية على بنية الدولة نفسها… وأيضا لن نتحدث تفصيليا هنا عن هذه النتائج لانها تحتاج الى مجلدات ومختصين، ونتابع في موضوعنا أو قضيتنا.
مجدداً، هناك طرفان سياسيان كبيران في البلد. كيف كانت مقاربتهما لهذه المشكلة؟ وتحديدا لموضوعي الاعتماد على مصدر واحد من جهة والتكدس الوظيفي المؤدي الى افلاس الدولة من جهة أخرى.
نبدأ بالطرف الاكثر قدرة على الحراك والتجييش والتعبئة وحرية الحركة، أي المعارضة بما تضمه من نواب حاليين وسابقين وبعض الاطراف والشخصيات السياسية. ماذا فعلت تحديدا لحل هذه المشكلة؟ الجواب بكل بساطة إن المعارضين إما فهموا هذه المشكلة لكنهم تجاهلوها تماما لانها تفقدهم أصوات مؤيدين حاليين وجدد، وإما أنهم لم يستوعبوها ولن يستوعبوها، واما انهم تطرقوا اليها بشكل هامشي ثم نقلوها من خانتها الاقتصادية الى خانة السجال السياسي مع الحكومة ووزعوا اسهمها في سوق المزايدات والمساومات والواسطات. لم تقدم المعارضة في برامجها مقاربة كافية شاملة وافية لموضوع يفترض انه الاخطر والاهم، فهم معارضون في دولة اسمها الكويت وان لم تكن لهم مساهمة نظرية وعملية في حل هذه المشكلة فربما تتفاقم وتزحف على هيكل الدولة نفسه وعندما ينهار الهيكل لا يميز بين معارض وموالٍ.
وبما أننا في «دولة الكلام» وغالبية من يهاجم ويشتم إما عاجزون أو معقدون أو قاصرون أو «ما عندهم شغل»، لا بد ان نوضح اننا هنا نتحدث عن قضية واحدة محددة ولا نتحدث عن جهود الخيرين الشرفاء من المعارضة وغيرها في المحافظة على الدستور والديموقراطية والحريات ومكافحة الفساد وسرقة المال العام ووقف الهدر وانتهاك القوانين. نتحدث فقط عن المؤشر الاقتصادي الاخطر أي الوصول بعد سنوات الى العجز في التوازن بين المصاريف والمداخيل.
طبعا، بين المعارضين من هو صادق ومنسجم مع نفسه. تسأله فيرد: «هل انت عاقل لتتوقع مني ان اقدم برنامجا يدعو الى نبذ التواكل وشد الاحزمة وإلغاء سياسة حشر الموظفين في ادارات الدولة وانهاك الوزارات بطلبات النقل والندب والواسطات والعلاج في الخارج؟ من سينتخبني أو يؤيدني أو يسير معي في الحراك السياسي؟». وبين المعارضين رموز يقولون ليل نهار ان مشكلة البلد هي الفساد والواسطة والمحسوبيات والرشاوى. كلام جميل لكن لو التفت هؤلاء يمينا ويسارا لوجدوا (وهذا ليس سرا واصحابه لا يخجلون به) ان رفاقهم هم ابطال الواسطة والمحسوبيات وبالتالي الرشاوى السياسية… وهنا نصل الى دور الحكومة.
كل من قدم طلبا وواسطة من المعارضين وغيرهم وجد يدا حانية من الحكومة لمساعدته. هنا، يتساوى الوزير أو الوكيل الذي وقع «اللا مانع» مع صاحب الطلب. وياما… ياما… كان الوزير متكدرا ومهموما ليس خوفا من مرحلة الوصول الى عنق الزجاجة الاقتصادي بعد سنوات بل لان النائب الفلاني أو المعارض الفلاني هاجمه بعدما «مشى» له مئات المعاملات ثم تعرقلت معه معاملة مثلا. الحكومة هنا تغضب مما تعتقده قلة وفاء أو نكران أو دخول شيوخ من الاسرة على خط هذا الموالي لتحويله الى معارض وتجييش الوضع وتصعيده لحسابات خاصة… لكنها لا تفكر للحظة في تغيير النظام المعمول به وتقتنع ولو لمرة ان من تشتري ولاءه بمعاملة يبيعها بقسيمة أو شاليه أو بوعد من «قطب» بهدية سياسية مستقبلا.
دفتا الحياة السياسية في الكويت متفقتان في الجوهر على كثرة الكلام وقلة الفعل. متفقتان على الاختلاف في اشياء أو الاتفاق على اشياء ليس من بينها مصير الاجيال القادمة وكيفية مواجهة التحدي الاقتصادي الابرز. مختلفتان ظاهريا في السياسة ومتفقتان عمليا على عدم خسارة ما يعتقدان انه «شعبية» قائمة على الحمد والشكر لما هو قائم. الحكومة تتحدث عن فساد وسرقة وتجاوز للقانون في الادارات واحد ابرز رموز المعارضة يتحدث عن وجود دجالين ومندسين وسماسرة ومزروعين في الحراك السياسي. الحكومة تقدم برامج نظرية طويلة عريضة تخشى أن تستفز المواطن ثم تبدأ مرحلة التوضيح، والمعارضة تقدم تعديلات دستورية تتعلق بموضوعين اساسيين: إما أسلمة الدستور وإما رئيس وزراء شعبي، ثم تبدأ مرحلة التوضيح…
بعد سنوات أمامنا استحقاق يتعلق بمصير الدولة نفسها ويحتاج الى مسؤولين حقيقيين ورجال دولة شجعان يقولون الحقيقة كما هي ويضعون الحلول مهما كانت صعبة… فدولة الكلام عمرها قصير ودولة الفعل عمرها طويل.
بين دفتي الحياة السياسية اليوم كلام بكلام، وبين دفتي الوطن قلق بقلق، ويبدو أن تبديد القلق مرتبط بتبديل الحياة السياسية وتغييرها جذرياً وليس… كلامياً.
جاسم بودي
قم بكتابة اول تعليق