عبدالله بشارة: الأمم المتحدة.. وشرعية الغضب

بعثت المملكة العربية السعودية رسميا الى الأمم المتحدة تعتذر عن عدم قبولها عضوية مجلس الأمن لعامي 2014 – 2015، ولم يكن هناك مفر من الاعتذار بعد ان التزمت الرياض بموقفها المعبر عن غضب وعدم ارتياح لمقاربة مجلس الأمن للوضع المأساوي في سورية، وانتهت بالاعتذار الرسمي مساعي الآملين والمتفائلين، وهذا حق سيادي للمملكة مارسته الرياض وفق قناعاتها.
لكن الذي لفت الانتباه ما رافق اعتذار المملكة من فتح الأبواب الواسعة لفيضان النقد اللاذع للمنظمة الدولية في اخفاقاتها وفي سلبيتها وفي سطوة النخبة المميزة، أصحاب الفيتو، المتحكمين بالقرار الدولي في مجلس الأمن المختص بالأمن والسلم العالميين.
ومهما كانت خيبة الأمل، ومهما قست الظروف على الوضع داخل الأمم المتحدة فلابد من حضور ضميري في ممارسة النقد الذي يجب ان يتميز بالموضوعية وبالقراءة العادلة لصفحات التاريخ التي سجلت الأحداث كما وقعت في وثائق موجودة ومفتوحة في ملفات المنظمة الدولية.
وهنا أشير الى ان الأمم المتحدة منظمة ليس فيها أسرار ولا تملك أجهزة التجسس ولا خبرة لها في التنصت، وانما كل شيء يقال في العلن ويسجل على الورق وعلى أشرطة بالصوت والصورة، كل ذلك من أجل تحاشي الالتباس والادعاء بسوء الفهم من قبل الدول الأعضاء التي قد تتنكر لمواقف تندم على اتخاذها.
ومن الحقائق التي جاءت في مفردات الغضب الطائش، في المقالات والتعليقات، عجز الأمم المتحدة عن معالجة موضوع فلسطين، في ادعاء بأن الأمم المتحدة ظلمت وتحيزت وتجاهلت ان لم تكن تآمرت على شعب فلسطين.
قضية فلسطين التي تشكل جدول أعمال المظلومية العربية في النقد الموجه للأمم المتحدة بدأت منذ الحرب العالمية الأولى، وناقشها الملك فيصل الأول في مؤتمر فرساي في عام 1919، وهناك محاضر مسجلة لاجتماعات الملك فيصل مع وايزمان، ولم تفاجأ الأمم المتحدة في حضورها الى المنظمة الدولية بعد ان عجزت بريطانيا على معالجة المشكلة المعقدة، فحولتها الى الأمم المتحدة في عام 1947، مع اعلان واضح بأنها ستنسحب من فلسطين في 15 مايو 1948، وقد شكلت الأمم المتحدة لجنة من الأعضاء تتكون من 13 دولة من ضمنها ايران، وترأس مندوب استراليا تلك اللجنة التي ذهبت الى فلسطين للوقوف على حقيقة الوضع.
وفي فلسطين رفضت الهيئة الفلسطينية الاجتماع مع الأعضاء وقاطعت اللجنة التي استمعت الى الجانب اليهودي القادر على شرح واظهار تعقيدات الوضع، فرحبت اللجنة باقتراح التقسيم الذي رفضه الفلسطينيون وبدعم عربي قوي، غير ان الجمعية العامة وافقت بأغلبيتها على قرار التقسيم، وخسر العرب لأنهم بالغوا في قدرتهم على الاعتراض ومقاومة الاصرار اليهودي على انشاء وطن قومي له.
وباقي القضية التراجيدية معروف من هزائم العرب في المعارك من 15 مايو الى ديسمبر 1948، وتولي الأمم المتحدة في كل من غزة وسورية والأردن ولبنان، مشكلة اللاجئين الفلسطينيين التي لا زالت تعيش على الأمم المتحدة، ولولا تدخلها لانتهى موضوع فلسطين نهائيا.
في عام 1956، قامت اسرائيل بالتواطؤ مع بريطانيا وفرنسا باحتلال سيناء ونزول قوات بريطانية وفرنسية على ضفاف القنال، وقامت الأمم المتحدة بدعم نادر من موسكو وواشنطن لرفض الغزو الثلاثي وهزيمته، ولعبت الولايات المتحدة أبرز أدوارها في فرض الانسحاب البريطاني – الفرنسي – الاسرائيلي من أراضي مصر، واحلال قوات دولية مكانها مع اتفاق على المرور البحري في مضيق تيران للسفن الاسرائيلية، وخرجت مصر، بفضل الأمم المتحدة، وبفضل الدور البارز للسكرتير العام همرشولد الذي ذهب في مواجهة اسرائيل الى أبعد مدى في ترتيبات نزول القوات الدولية، وحازت مصر ورئيسها نصرا سياسيا استفاد منه الرئيس عبدالناصر في الانطلاق الى الزعامة الاقليمية والمشاركة الدولية وخوض معارك لفرض مشروعه القومي الناصري على الآخرين.
ومن هنا جاءت الاصطدامات بين القاهرة والعرب الآخرين وهو الصراع الذي دفع عبدالناصر الى سحب القوات الدولية من مضيق تيران، في نقض واضح للتفاهمات التي تمت في المنظمة الدولية، وجاءت الكارثة في حرب 1967، التي حاولت المنظمة تفاديها عبر وصول السكرتير العام يوثانت الى القاهرة وفشله في اعادة القوات الدولية الى شرم الشيخ.
منذ عام 1967، تبنت الولايات المتحدة استراتيجية مختلفة، باصرارها على أن يتم انسحاب القوات الاسرائيلية من الأراضي العربية، وفق مفاوضات ثنائية وعلى أساس الأرض مقابل السلام، كما جاء في قرار مجلس الأمن (242) وقد قبل السادات المعادلة وأعاد سيادة مصر على أراضيها، وكذلك فعل الملك حسين، وقامت المنظمة الدولية بحماية لبنان بقوات دولية لازالت هناك مع قوات دولية بين اسرائيل وسورية، ولعبت الأمم المتحدة دورا في قرار مجلس الأمن حول ليبيا بناء على طلب الجامعة العربية، وانهت حكم القذافي الهمجي والبدائي.
ويظل الشعب الكويتي ونظامه وفيا للمنظمة الدولية التي وقفت في وجه الغزو العراقي البربري، بقوة، وقد صدر من مجلس الأمن 32 قرارا تتعلق بتحرير الكويت، أولها القرار (678) في 29 نوفبر 1990، بتحرير الكويت بالقوة، في دعوة شرعية للدول الأعضاء للمساهمة فيها، تلك العملية التي شملت زوايا العالم كله، وفرضت حصانة على الحدود الكويتية بتأمين ورعاية من مجلس الأمن الذي أصبح المرجعية فيما يتعلق بسلامة وأمن الكويت.
وحتى القضية السورية الحالية لم تخرج من مجلس الأمن الذي تجمد في جوانبه السياسية لمسببات الفيتو الروسي – الصيني، لكنه تحرك نحو خريطة الطريق لتجاوز المشكلة عبر المفاوضات في مدينة جنيف.
وسيستمر التواصل الآن حول مؤتمر جنيف رقم 2، لوضع قواعد الحل السياسي وغير ذلك اتخذ المجلس خطوات في الجوانب الانسانية والمعيشية.
وبدون الأمم المتحدة سيواصل النظام السوري البطش في شعبه دون قوى تعترض عليه وتفرض عليه سلطان القوة السياسية والأدبية التي يحتاجها الثوار السوريون.
نحن في الكويت لنا شكوى تاريخية من قسوة الفيتو، فقد تقدمت الكويت بطلب العضوية الى الأمم المتحدة مرتين، الأولى في يوليو 1961، وتصدى لطموحها ولآمالها الفيتو الروسي الذي لم يعبأ بارادة الشعب الكويتي، والثانية في نوفمبر 1961، ومرة أخرى يطلق الاتحاد السوفييتي الفيتو على الطلب الكويتي فتسقط آمال الكويتيين في العضوية.
ويدور الزمن، وتصبح الكويت عضوا في مجلس الأمن عامي 1978 – 1979، وكان لي شرف تمثيل الكويت في المجلس، وكنت من الذين يسعون لتحييد الفيتو ضد طلبات الانضمام الى عضوية المنظمة الدولية، وتحدثت في الممرات مع الوفود الأعضاء، لكن أصحاب الفيتو لم يعبأوا بصوت صادر من تجربة ظالمة، تركت الكويت في صالون الانتظار لمدة سنتين، لأن البدء في مس عضلات الفيتو وامتيازاته قد يشكل السوابق التي تنكمش عبرها هيبة الفيتو.
ولم يأت الفيتو من مجاملات لارضاء الكبار، وانما كان حصيلة انتصار على النازية بتضحيات ضخمة، وكان الزعيم السوفييتي ستالين يطالب باستبعاد فرنسا لأنها لم تقاوم، لكن تشرشل أصر على وجودها كعضو دائم من أجل تأمين قوة ضد المواقف السوفييتية، وكان ستالين يطالب بفيتو للأعضاء الثلاثة، الاتحاد السوفييتي، أوكرانيا وروسيا البيضاء، الأمر الذي دفع ترومان الى طلب تمثيل جميع ولايات أمريكا في عضوية الأمم المتحدة.
جاءت صيغة الفيتو الحالية حصيلة مساومة ومفاوضات صعبة نظرا لعدم ثقة ستالين بالسياسات الغربية، وشكوك تشرشل في نوايا ستالين وزعامته.
ومهما كان السخط من امتيازات الفيتو والتوظيف السيئ من قبل مالكيه، فان الواقع الذي يعكسه ميثاق الأمم المتحدة لا يوحي بالتغيير المستقبلي، فالدولة الفرنسية وكذلك بريطانيا تكمن أهميتهما في العلاقات الدولية على أساس العضوية الدائمة، اذا فقدتها كل من لندن وباريس فستتحول كل منهما الى عواصم أقل من طوكيو وبرلين في الشأن الدولي، وربما في مصاف البرازيل وايطاليا.
ويظل الأمل في التخفيف من اللجوء الى فيتو في قضايا لا تثير الخلافات السياسية مثل قبول عضوية الدول والقضايا الانسانية العادلة والقضايا التي تهم الكون بشكل عام.
سألني مرة السكرتير العام السابق للأمم المتحدة كورت فالدهايم بعد ان توليت مسؤوليتي كأمين عام لمجلس التعاون، عن مزعجات العمل، وكانت تربطني معه علاقات عمل قوية، فقلت له، إنني أشعر الآن بما تشعر به أنت، فالكل يضع اللوم على الأمين العام وتنجح الدول في التنصل من اللوم ووضعه على أكتاف الأمانة العامة.
هذه هي الأمم المتحدة بما تملك من قوة ومن ضعف، وهي مرآة لارادة الدول، وهي التي تملك زيادة فعاليتها واتساع نفوذها، لكن الدول الكبرى تخاف من ذلك التوسع، وتخاف من ان يتحول السكرتير العام، حاكما عاما، وقد سمعت كثيرا من مداخلات المندوب السوفييتي يحذر السكرتير العام من الاقتداء بالقياصرة الروس.
خسر العرب كثيرا باعتذار المملكة، ومهما جاءت حصافة البديل، فان المجلس سيفتقد المكانة والمصداقية والأصابع المتينة التي تتفاعل مع صناعة القرارات وصياغتها في مجلس الأمن لصالح المظلومين وعشاق العدالة..

عبدالله بشارة
المصدر جريدة الوطن

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.