ليس هذا مجرد كتاب آخر! إنه عمل فني مبهر، وقطعة فنية نادرة، وانجاز ثقافي يشع على كل صفحة وصعيد، وسفر جميل ناطق لا يمل المرءُ من مطالعته بشوق متواصل ومتأثر عاطفي بالغ.
لا تتكرر بسهولة رؤية كتاب متقن الطباعة والإعداد، متماسك المظهر والجوهر، متعانق الشكل الخارجي والمضمون الداخلي، ككتاب «الشيخ عبدالله السالم الصباح: وثائق وصور من حياته»، من تأليف وإعداد علي غلوم علي الرئيس، الصادر عن مركز البحوث والدراسات الكويتية، 2013.
الكتاب ليس بالطبع دراسة أو بحثاً تاريخياً في حياة مؤسس الكويت الحديثة وأب الدستور. إنه سجل تاريخي زاخر بالصور النادرة والوثائق التاريخية وبعض صور العملات والطوابع البريدية كذلك، والتي تظهر فيها صورة الراحل الكبير.
لا يمكن أن تطالع الكتاب وتتصفحه دون أن يغمرك شعور بالاحترام والتقدير للشيخ عبدالله السالم، والتفكير العميق بمنجزاته وسنوات حكمه. فعبدالله السالم لم يضع الدستور ويؤسس الديموقراطية بتعاون خلاق مع الجيل المؤسس من النخبة الكويتية التجارية والقانونية وكل مؤيدي تحديث الكويت والنهوض بها، بل كان الحارس الأمين لثروات الكويت، والحاكم الذي لولا تدخله لتم اقتطاع معظم الأراضي ولم يجد الجيل الجديد مكاناً للبناء والتجوال!
كما كان الشيخ عبدالله السالم من جانب آخر، كما يقول د.عبدالله يوسف الغنيم في تصدير الكتاب ومقدمته، «حاكماً سياسياً محنكاً استطاع أن يبحر عَبْر المد القومي في الخمسينيات، الذي أطاح بحكومات عريقة في عدد من أقطار الوطن العربي، وكون علاقات متوازنة وحكيمة مع جميع الحكومات العربية، فنال احترام كافة رؤساء الدول».
كان الشيخ عبدالله السالم متقدماً على مرحلته وثمرة ناضجة من ثمار انفتاح الثقافة السياسية الكويتية. ويشير الكتاب إلى أن «من الأمور التي قد يعجب لها الإنسان أن الشيخ عبدالله السالم لم يقتصر في اطلاعه الثقافي على الأدب والتراث العربي، بل عُرف عنه قراءاته في التراث الغربي المترجم إلى اللغة العربية، ومن الغريب أن البعض كان يقرأ له كتاب الأمير لميكيافيلي. ولسمو الشيخ علاقة مميزة بالمجلات حيث كان مشتركاً في عدد كبير من المجلات والصحف التي كانت تصل إلى الكويت أوائل القرن العشرين عبر مكتبة ابن الرويح.
ويقول الشيخ عبدالعزيز الرشيد: زرت سموه يوماً بعد طول غيبة، فأخذ يطارحني المسائل العلمية والأدبية بمهارة غريبة كان في أثنائها يرميني بسؤالات وإشكالات حيرني بها».
أرسى الشيخ عبدالله السالم في اعتقادي الأساس للحريات الاجتماعية إذ لو كان شديد التزمت والمحافظة لما صيغت مواد الدستور وقوانين الكويت بهذه الدرجة من التسامح والاعتدال، ولكانت حقوق المرأة الاجتماعية والثقافية أولى ضحايا هذا التزمت. فعلى العكس، «كان للشيخ موقف مناصر للمرأة الكويتية يوم أن أصدر المجلس الأعلى المشترك قراراً بعدم توظيف الفتاة الكويتية في غير دوائر الصحة والمعارف والشؤون الاجتماعية، فطلب إعادة النظر في هذا القرار، كي تساهم بدورها في الخدمة العامة في جميع المجالات». (ص46). وعندما استلم الشيخ الحكم عام 1950، كان عدد الطالبات في المدارس الحكومية 1334 طالبة، ومع وفاته عام 1965، كان العدد قد زاد على 38 ألف طالبة.
«للأمانة والتاريخ»، يقول عنه السيد خالد عبداللطيف الحمد، «كان رجلاً يملأ الكرسي، طيِّب العشرة، دمث الخلق، وهو رجل مثقف وحليم، يعطي كل ذي حق حقه، لا يحب التظاهر ولا الأبهة، له في الأدب والشعر باع طويل». (ص50).
تميزت فترة حكم الشيخ منذ بدايتها بزيادة كبيرة في دخل النفط، يقول د.غانم النجار: كانت هناك قضيتان رئيستان شكلتا نوعا كبيرا من التحدي لعبدالله السالم خلال فترة حكمه السابقة على الاستقلال وهما النفط والتنمية. وكان الشيخ على خلاف مع الانجليز، حيث وصفته الوثائق البريطانية بأنه «ذو توجهات سياسية مشكوك بها»، وأنه في الوقت نفسه «زعيم لدعاة النازية في الكويت». وكان الشيخ يعرف تماماً العلاقات التي تربط د.أحمد الخطيب وجاسم القطامي مع الكثير من القوى العربية خارج الكويت، وعرض عليهما المشاركة في الحكومة، ووعدهما بناء على طلبهما بأن يعجل في إيجاد حكم برلماني. وقد طلب من القطامي تأسيس وزارة الخارجية، وترتب على ذلك كون الكثير من جهاز الوزارة من القوميين العرب، حيث كانت تجمع علاقة طيبة بين الشيخ عبدالله السالم وهذه الحركة القومية. أما د.أحمد الخطيب فقد اعتذر عن المشاركة نظراً لانشغاله بعيادته، على الرغم من أنه أوضح أن ذلك لا يعني أي تراجع عن موقفه في دعم الحكومة. (د.غانم النجار، مدخل للتطور السياسي في الكويت، ص31، 63).
ويشيد السيد عبداللطيف الثنيان الغانم في مقابلة عام 1963 بدور الأمير الدستوري والديموقراطي، وبخاصة لدى مناقشة المادة الخاصة بإعلان الحكم العرفي وكذلك عند مناقشة مخصصات رئيس الدولة، «فلقد طلب صاحب السمو أن يُحدد له مبلغ رمزي لا يذكر، ولا يوازي مرتب موظف درجة سادسة، وحين قيل لسموه هذا الكلام أجاب: لا أريد مالاً من الدولة، فأنا بغير حاجة إليه والحمد لله».
كتاب الشيخ عبدالله السالم الذي وضعه المؤلف «علي غلوم الرئيس»، في الحقيقة ألبوم مدهش من الصور الجميلة والنادرة، بالأسود والأبيض، وبالألوان. الصورة ص13 آية في الجمال والرزانة وهيبة الزعامة. صورة الأمير الراحل ص509 رائعة. ثمة مجموعة صور نادرة معبرة لزيارة الأمير ومعه سمو الأمير الراحل جابر الأحمد وسمو الأمير الحالي وكانا في رفقته خلال تلك الرحلة إلى بغداد في مارس 1952، وصورة مع زعيم العراق عبدالكريم قاسم، عندما زار سموه بغداد في أكتوبر 1958.
كتاب «الشيخ عبدالله السالم الصباح» منجز ثقافي قيم، ومفخرة في مجال الإخراج والطباعة. انه تعبير حي عما بذل فيه المؤلف والمركز من جهد، وما قام به الأستاذ شريف إسماعيل من جهد فني في مجال الإخراج والتنفيذ. انه جهد مشكور للمؤلف والمركز وكل من ساهم في إعداده.
خليل علي حيدر
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق