عاشت الكويت يوما مميزا كرس صورتها الحضارية رغم كل البقع الصغيرة السوداء التي انتشرت على زواياها. لسنا من جنس الملائكة ولسنا دولة مثالية ولسنا في منأى عن الأخطاء بل نحن أحيانا في منأى عن الحلول… ومع ذلك فتاريخ 2013/11/26 نفتخر فيه لأنه عكس جوهر الحيوية الديموقراطية التي نتمتع بها وأظهر أن الحريات ليست معبرا إلى الفوضى بل هي معبر إلى الإصلاح خصوصا إذا اقترنت بالمسؤولية.
استجوابات… استجوابات… استجوابات… و«خير يا طير». يوم طويل بدأ بعد صياح الديك وامتد حتى صياح الديك. تخللته صيحات من «ديوك» نيابية وصقور وحمائم، ومساجلات ومداخلات واتهامات وردود وتوضيحات. ويمكن الخروج من تلك الحلبة التشريعية بمجموعة من الخلاصات أهمها:
الاستجواب هو سؤال برلماني مغلظ، طرحه يخدم الجميع إذا كان دستوريا ومتعلقا بصلب عمل الوزير ومنزها عن الأهواء والمصالح و«الفواتير» الشخصية. في البرلمانات العريقة يمكن أن نرصد يوميا مشهدا مماثلا عندما يقف نائب معارض أو مُوالٍ ويطلب من الوزير رد تهمة أو توضيح قضية، ويمكن أن يلتقي حول القضية نفسها نواب من داخل الحزب الذي ينتمي إليه الوزير ومن أحزاب أخرى، فالمصلحة العامة الأوسع أهم من الانتماءات الأضيق سواء كانت حزبية أم طائفية أم قبلية.
ولذلك فأهم ما في هذا النهار الاستجوابي الطويل كان فصل عملية المساءلة عن الأزمات السياسية الكبرى، حتى لو حاول البعض استعادة النهج السابق من خلال ربط الاستجوابات بالتأزيم والتصعيد والوصول إلى طرق مسدودة تستلزم حلولا استثنائية مثل حل البرلمان أو تغيير الحكومة. الاستجوابات تمشي، وشغل المجلس يمشي، وشغل الحكومي يمشي… بل بقدر ما تكون الاستجوابات حضارية وفاعلة بقدر ما يكون عمل الحكومة أفضل.
وتميزت جلسة الاستجوابات بطروحات راقية هدفها فعلا التغيير والإصلاح تماما كما كان يحدث في بعض الاستجوابات في المجالس السابقة… لكنها تميزت أيضا بجنوح نواب إلى الإسفاف في اللغة والتصرف، تماما كما كان يحصل في بعض الاستجوابات في المجالس السابقة، ويبدو أن القصور لدى هذه القلة يمنعها من تغيير نهجها ويجعلها عاجزة عن الارتقاء في الأداء والسلوك في أهم صرح رقابي وتشريعي في الكويت… وهذه القلة مشكلتها الأساسية ستكون مع ناخبيها الذين سيقيمون التجربة ويجددون التصويت لها أو حجبه لاحقاً.
ومن خارج يوم الاستجوابات الطويل، كانت «ليلة السكاكين» الطويلة التي أحياها معارضون سياسيون ورموز تيارات حزبية وسياسية. بعض هؤلاء كرس جل وقته للطعن في النواب الحاليين والإساءة إليهم وإلى شخوصهم وأدائهم كاشفا عن أحقاد تعتمل داخله من جهة، وعن عدم إيمان بالديموقراطية من جهة اخرى، وعن تعصبه الحاد لمقولة «من ليس معي فهو عدوي» من جهة ثالثة، وعن تدخل جهات وأقطاب في تحريك الأزمة من جهة رابعة. فهؤلاء شتموا واستهزأوا ببعض النواب وهم في الحقيقة يسيئون إلى ناخبيهم وخياراتهم، ومدحوا نوابا بعينهم لتكريس الخيط الرابط بين من حرك من وراء الستار ومن تحرك على المسرح، وفي ذلك أيضا إساءة للممدوح ولمن انتخبه.
ومع الاحترام الكامل لكثيرين في المعارضة إلا أن القلة التي أحيت «ليلة السكاكين» تنسى ربما أن أداءها في المجالس السابقة كان أسوأ من أداء أسوأ نائب حالي، وان بعض المشاهد التي رأيناها في الأسبوعين الماضيين كانت نسخة حقيقة عن المشاهد السابقة لهذه القلة وسيرا على سنتها في السلوك والأداء.
ومن الخلاصات أيضا أن على الحكومة التي خرجت بأقل قدر من الأضرار، أن تعتبر ما جرى بداية الطريق وليس نهايته، فالجميع مع التعاون بين السلطتين وبدء مرحلة الإنجاز بعد مرحلة الجمود، لكن مسؤولية الحكومة كبيرة جدا في هذه المرحلة وعليها أن تبدأ نهجا جديدا تماما.
صحيح أن إطلاق عجلة المشاريع وتطوير المؤسسات وتحويل الكويت مركزا ماليا في المنطقة وإيجاد حلول لمشاكل المواطنين العالقة لن تتم بين ليلة وضحاها، إلا أن محاربة الفساد يجب أن تكون هما يوميا كي تبنى عليها الإصلاحات.
وعلى سبيل المثال لا الحصر أعتقد أن المواطنين ليسوا بحاجة لقراءة الصحيفة كل يوم بحثا عن النتائج الاجتماعية الكارثية لتجارة الإقامات بل يريدون أن تعلن الحكومة اسما واحدا ضبطته وأوقفته بتهمة تجارة الإقامات. المواطنون لا يريدون أن يقرأوا في الصحيفة كل يوم أن المبرات المخالفة ستلغى أو أن أصحابها سيعاقبون بل يريدون أن تعلن الحكومة أسماء المبرات المخالفة والعقوبات التي طالت أصحابها. المواطنون لا يريدون أن يقرأوا في الصحيفة تصريحا لوكيل وزارة يقول فيه إن آلاف الموظفين في وزارته حصلوا ويحصلون منذ سنوات على مكافآت بشكل غير قانوني وغير مستحق بل يريدون أن يعرفوا من المسؤول الذي سمح بذلك وأهدر مالا عاما وحرم الموظفين الأكفاء من المكافآت. المواطنون لا يريدون فحسب ان يقرأوا في الصحيفة تقارير ديوان المحاسبة عن الهدر والفساد والمخالفات في الوزارات والإدارات بل يريدون رؤية طوابير المسؤولين عن ذلك أمام القضاء.
هذا غيض من فيض الأمثلة عن فساد «لا تحمله البعارين» لأن الاستفاضة تحتاج إلى مجلدات، لكن المطلوب مجددا من الحكومة أن تبادر هي إلى الإصلاح والمحاسبة مهما كانت الأثمان صعبة وأن نراها هي توقف وزيرا على منصة القانون والدستور والضمير قبل أن يوقفه النواب في جلسة خاطفة أو جلسات تمتد حتى صياح الديك… لأننا نريد للديك أن يستمر في الصياح مؤذنا بفجر جديد.
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق