بعد أيام قليلة تستضيف الكويت القمة الخليجية في مرحلة حساسة داخليا ومفصلية دولياً ومصيرية إقليميا. نستذكر بالخير والمحبة والدعاء المغفور له الشيخ جابر الأحمد ليس على كون مجلس التعاون الخليجي فكرة ولدت من عقله عام 1981 فحسب بل على رؤية أخرى له أقرتها قمة 1997، لكنها تاهت مع الأسف الشديد في رياح السياسة والصراعات… نعود إلى ذلك لاحقا.
مسيرة مجلس التعاون الخليجي حافلة بالكثير. بالإنجازات كما بالاخفاقات، ولا أظن أن شعوب الخليج تريد في هذه المناسبة سماع أسطوانات المديح المشروخة النابعة من القلب والعاطفة والمجاملات لا من العقل والمنطق والقراءات الصحيحة لمجريات الأمور. أقول شعوب الخليج لأنهم أصحاب المصلحة الفعلية في بقاء مجلس التعاون واستمراره وتحوله إلى اتحاد على شاكلة الاتحاد الأوروبي.
مراجعة سريعة جدا للاتحاد الأوروبي. هو قام على ركيزة أساسية اسمها الاقتصاد لا السياسة، ولأن الاقتصاد في الأنظمة المتطورة هو الذي يحدد ويغير السياسات لاحقا (بعكس دولنا التي تحدد السياسة اقتصادياتنا) وجدت دول أوروبية كثيرة تريد دخول الاتحاد نفسها أمام شروط مباشرة وغير مباشرة، فالاقتصاد الحر والاتفاقات المالية والتجارية والسوق المفتوحة والسياسات الاستثمارية والضرائبية والجمركية والبيئية، كلها تتطلب تعديلات تشريعية ضخمة داخل كل دولة وتعديلات اجتماعية وتعديلات تربوية ودراسية ضخمة وتغييرات جذرية في عمل المؤسسات الرقابية من أجل إيجاد أنظمة قوية لمكافحة الفساد وسوء الإدارة وتأمين حصانة قانونية للاستقرار المالي والاستثماري.
الدول التي أرادت دخول منطقة العملة الموحدة (اليورو) والاتحاد الجمركي والسوق المفتوحة وجدت لزاما عليها أن تجري هذه المراجعات الداخلية كي تكون مقبولة. بمعنى آخر، تأخر دخول إسبانيا والبرتغال مثلا إلى الاتحاد الأوروبي سنوات طويلة لأن بعض الأنظمة في هاتين الدولتين افتقرت إلى العمل المؤسساتي وخضعت في أحيان كثيرة للسلطات الحاكمة في البلدين، كان رأس الهرم أو النافذون في الحكم يأمرون فتشطب قضية أو تلغى أخرى أو «تفبرك» ثالثة، وكان رموز المجتمع المدني يقمعون والحريات الإعلامية منقوصة، وكانت مجالات الاستثمار حكرا على مجموعات معينة قريبة من دوائر السلطة… وبعد إجراءات حقيقية وأحيانا قيصرية أجرتها الدولتان تم قبولهما في الاتحاد الأوروبي.
والأهم الأهم، في مسيرة الاوروبيين أن هيكلية اتحادهم فصلت تماما عن التباينات السياسية بين دولهم. يمكن لفرنسا أن تقول إنها تريد المشاركة في توجيه ضربة عسكرية لسورية ولألمانيا أن تعترض بشدة لكن لا علاقة لذلك ولا تأثير على الاتحاد نفسه ولا على قوانينه ولا على آلياته.
بادئ ذي بدء علينا أن نعترف أن دول مجلس التعاون الخليجي ليست كلها متشابهة تماما في الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية رغم التشابه الكبير في التركيبات السكانية والعادات والتقاليد والمواريث ورغم المصالح والتحديات المشتركة.
وعلينا أن نعترف أن اتفاقاً لم يحصل حتى الآن على قاعدة اقتصادية حقيقية يمكنها أن تقود إلى تغييرات وبالتالي تقاربات في الأنظمة والتشريعات والقوانين.
وعلينا أن نعترف ونكون أكثر صراحة، ومن دون إعطاء أمثلة تفصيلية، فنقول إن أحداً لا يتوقع في المرحلة الراهنة أن يتكلل هذا الطرح بالنجاح لأن الدولة التي ستتولى تسويقه ستتهم بأنها تسيء إلى العلاقات أو تتدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى… لذلك يرضى الجميع بالحدود الدنيا من التوافقات التي ترد في بيانات الأمانة العامة.
حتى الآن، لم تنجح دول المجلس في الفصل بين مسيرة التعاون من جهة وبين الخلافات الثنائية او اختلافات الرأي التي حصلت وتحصل بين دولتين من دول المجلس أو أكثر. لنكن صادقين في ذلك لأن الكلام الإنشائي يضر ولا ينفع.
لم يتمتع مجلس التعاون بهيكلية مؤسساتية يمكنها ان تنأى بنفسها عن الخلافات السياسية كما حصل مع الاتحاد الاوروبي، وأعطي هنا امثلة واضحة مباشرة من باب الإضاءة لا من باب الإساءة. هل كل دول مجلس التعاون متفقة فعلا في الرؤية بالنسبة إلى التغييرات التي حصلت في مصر؟ بالنسبة إلى الثورة السورية؟ بالنسبة إلى العلاقات مع إيران؟ بالنسبة الى العلاقات مع اسرائيل؟ الوضع في لبنان والعراق؟ ناهيك عن قضايا الإرهاب والتطرف و«الإخوان» و«حماس» و«فتح» والسلطة الفلسطينية وغيرها وغيرها.
استخدمت عبارة «متفقة فعلا» لأن الجميع بات يعرف أن بيانات القمم تُحضّر سابقا وبعد جولة على ست عواصم كي تحذف كل واحدة ما لا تريد فتخرج البيانات منمقة عند الحدود الدنيا من الاتفاقات. لكن السؤال الحقيقي هو هل أن هذه التباينات (إضافة إلى قضايا الخلافات الحدودية طبعا) تبقى في منطقة اختلافات الرأي أم أنها تنعكس شللًا على مناطق العملة الموحدة والاتحاد الجمركي والضريبة الموحدة بل حتى على العلاقات المباشرة بين دول المجلس وشعوبه؟
لا نريد مواقف سياسية موحدة، ونتمنى أن نرى كل دول الخليج متشابهة من حيث الأنظمة المرعية والدساتير والديموقراطية والانتخابات والحريات العامة والإعلامية تحديدا… لكن ذلك من المستحيلات حاليا. نريد أن يتفق القادة على البدء من الاقتصاد كقاعدة، وأن يتفقوا على حماية هذه القاعدة بشكل جيد وتحصينها من التدخلات السياسية والانفعالات الظرفية، ثم توسيعها شيئا فشيئا إلى كل المجالات المالية والاستثمارية والخدماتية التي تهم المواطن الخليجي صاحب المصلحة الحقيقية في التقارب، وصولًا إلى مرحلة السوق المشتركة والعملة الموحدة والتكامل الاقتصادي.
تبقى نقطة مهمة وهي أن الاتحاد الأوروبي حمى تجربته وصانها من خلال المشاركة الشعبية الأساسية في هيكله عبر البرلمان الأوروبي المنتخب الذي شكل الضمانة لفصل التأثيرات السياسية عن مسيرة التعاون والتكامل الاقتصادي. عام 1997 وعلى قاعدة «أفضل الممكن» اقترح المغفور له الشيخ جابر الاحمد فكرة المجلس الاستشاري الشعبي في أعمال المجلس أملا في تطوير الفكرة إلى برلمان خليجي موحد لاحقاً يشكل، كما البرلمان الأوروبي، الضمانة لفصل التأثيرات السياسية عن مسيرة التعاون والتكامل الاقتصادي.
هل يحصن مجلس التعاون الخليجي كيانه (لا مسيرته فحسب) بالمشاركة الشعبية في هيكله أم إن أولادنا وأحفادنا سينظرون إليه بعد سنوات كذكرى؟
سؤال للقمة الحالية… والقمم المقبلة.
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق