• أعلن أمس في جنوب إفريقيا وفاة أحد عظماء التاريخ الحديث، نيلسون مانديلا، أو “ماديبا” كما يطلق عليه مواطنوه. من غير المناسب أن يوصف فقط بأنه كان رئيساً سابقاً لجنوب إفريقيا، أو أنه كان رئيساً لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي. فمانديلا أكبر من هذا وذاك، هو نموذج فريد من نوعه، صانع لفن التسامح. الفارق بينه وبين غيره من عظماء التاريخ، أنه من القلائل، من أصحاب الرسالة الإنسانية، الذين تمكنوا من البدء باستكمال مشروعهم الإنساني وهم أحياء. لذا فإن الموت الذي غيب مانديلا أمس كان مجرد رحيل لجسد، أما فكرته بإمكانية التصدي للعنصرية والتغلب عليها بالوسائل السلمية فقد ترسخت وتجذرت.
• المراحل التي مر بها مانديلا في حياته، وحتى بصراعه الأخير مع المرض، كانت وكأنها رسالة للعنصريين والمتطرفين، بفساد منطقهم، إن كان لديهم منطق أصلاً.
قضى “ماديبا” 27 سنة في السجن، منها 23 في جزيرة روبن، قرب كيب تاون بجنوب إفريقيا، والتي تيسر لي زيارتها مؤخراً. كنت أتأمل المراكب الكبيرة التي نقلتنا من ميناء كيب تاون إلى جزيرة روبن، وقد امتلأت عن آخرها بمئات البشر من كل أركان الدنيا، جاءوا لزيارة الجزيرة السجن الذي حبس فيه مانديلا. لم يكن في الجزيرة ما يغري بالزيارة، جزيرة لها تاريخ ربما، لكن هذا الكم الهائل من البشر كان يأتي بسبب مانديلا فقط.
كنت أتساءل، ما هو يا ترى سر الجاذبية الطاغية للرجل التي تجعل البشر يأتون من كل مكان فقط للتجول في مكان كان فيه الرجل محبوساً قرابة الربع قرن؟ تكرر الأمر عندما جاء إلى جامعة هارفارد لتسلم شهادة الدكتوراه الفخرية، وتقاطر الناس بالآلاف لحضور ذلك الحفل المهيب الذي ألقى فيه “ماديبا” كلمة تاريخية، ومن حسن حظي وجودي حينها في “هارفارد” كأستاذ زائر. ظل مانديلا يرفض تكريم الجامعة الأولى في العالم، جامعة هارفارد، لأنها كانت تستثمر مئات ملايين الدولارات، في النظام العنصري، حتى وافق أخيراً، فقيل حينها، إن مانديلا، في واقع الأمر كان هو الذي يكرم “هارفارد” وليس العكس، وقد قال أحد منظمي الحفل حينها من يكرم من؟ وقد تم تثبيت هذه المقولة في أدبيات الحفل. كم هم عدد المكرمين في “هارفارد” أو غيرها الذين قيل فيهم ذلك، أو اعتبروا كذلك؟ لا أحد.
• كيف وصل مانديلا إلى هذه المرتبة في وعي الناس، وصار قبوله في ضمائرهم غير مشروط، وبدون سقف، فالرجل ظاهرة قد لا تتكرر، خاصة في زمننا الموبوء بالكراهية والعنصرية وخطاب الكراهية والقتل والتصفية الجسدية. لذا يستحق التركيز على جوانب من حياته، فهو دروس لا تنتهي، وبالذات في فن التسامح الذي لا يجيده كثيرون؛
فللحديث بقية.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق