جاسم بودي: أكبر من وطنٍ

كان ذلك عام 1989. وقفت أمام الخيمة الصغيرة المنصوبة في عز الشتاء أمام سفارة جنوب أفريقيا في قلب العاصمة لندن. خرجت فتاة بريطانية بيضاء من تلك الخيمة وهي ترتجف من البرد منتظرة فتاة أخرى لتحل محلها كون الاعتصام 24 ساعة على مدار السنة. سألتها عن الزمن الذي تتوقعه لازالة الخيمة فردت: «عند إزالة الابارثيد العنصري في جنوب أفريقيا». سألتها مجددا أن المسألة قد تطول مستشهدا ببقاء نظام الاحتلال الإسرائيلي العنصري في فلسطين، فأجابت: «احفظ ما سأقوله لك. هذه الخيمة لن تبقى والنظام العنصري سيزول، فالمقاتلون من أجل الحرية في بريتوريا وجوهانسبرغ وغيرهما صاروا يتقنون اللغة التي تحرك ضمير العالم بعكس لغة خطف الطائرات والباصات والرياضيين التي قمتم بها في وجه نظام بشع كنظام تل أبيب». هممت بالانسحاب من دون اكمال لنقاش فسألتني: «هل عرفت ما هي هذه اللغة؟» مجيبة قبل أن تمنحني فرصة للتفكير: «إنها اللغة المانديللية».

لم يعد نيلسون مانديلا بالنسبة إلى أنصاره في جنوب أفريقيا وأفريقيا ومختلف دول العالم رمزا سياسيا لرفض التمييز العنصري فحسب، بل صار أيضا لغة عشاق السلام والمحاربين من أجل العدالة. تجاوز الرجل حدود شخصه وسيرته إلى حالة غير مسبوقة فعلت فعل السحر في العالم وهي حالة ستبقى لعقود وربما لقرون تماما مثل حالة المهاتما غاندي مع فارق الزمان والمكان وتعقيدات تركيبة النظام وهوية المعتدي والمستعمر.
بعيدا من سيرته الشخصية التي كتبها هو بنفسه في مذكراته التي صدرت قبل 20 عاما بعنوان «رحلتي الطويلة إلى الحرية»، فإن سيرته في الحكم بعد ذلك تستحق أكثر من الذكرى. قدم هذا الزعيم دروسا في كل شيء. في التسامح وفتح صفحة جديدة واستيعاب من شب على الكراهية والاعتداء. صحيح أن الأوطان أكبر من الأشخاص إلا أن جنوب أفريقيا بعد انهيار نظام التمييز العنصري مباشرة لم تكن أكبر من مانديلا، ولو لم يكن مانديلا هو نفسه الرئيس الذي قاد المرحلة الانتقالية لغرقت البلاد في حمام من الدم وربما الإبادة والتقسيم.
كم أتعب مانديلا كتفيه بعد خروجه من السجن وهو يحاول دمج الرجل الأبيض في نظام تعددي ديموقراطي من جهة وتهدئة ملايين السود الحاقدين على أبشع أنواع الممارسات التي ارتكبها البيض ضدهم. سمع زعماء قبائل يقولون له إنهم ما ساندوه في سجنهم وواصلوا قتالهم ضد النظام السابق من أجل أن يخرج من السجن إلى القصر ليكسب ود البيض ويطبق القانون بحزم على بعض من ارتكب مخالفات من السود، وكان يرد بان لحظة ولادة الأمم لا تخلو من آلام وانه يريد ان يثبت للنظام السابق انه بديله وليس نظيره. قال لهم ان يتسامحوا ولا ينسوا لكنه رفض ان يموتوا مرتين، مرة بسلاح نظام الابارثيد ومرة «من خلال خيارات الحياة الضيقة»… كان يصر على ان الانتقام هو من الخيارات الضيقة التي تنحر مستقبلا ولا تبني امة.
في كتابه يتحدث مانديلا بعبارات وأمثلة حقيقية عن الفارق بين الايمان والارادة وبين الإيمان والاستسلام. يقول ان أبناء القبائل عندما يصلون الى سن الـ17 تقام لهم احتفالات الانتقال من مرحلة الطفولة إلى الرجولة. ويشرح كيف أن زعماء قبائل ورجال دين يحاضرون في هذه الاحتفالات عن ضرورة التزام الشبان بالمعتقدات الدينية مهما كانت وان يطبقوا التعاليم كما يأمرهم الكاهن أو يفسرها لهم كبير القبيلة، وكيف ان شخصيات سياسية وقبائلية أخرى كانت ترى أن مرحلة الرجولة تقتضي التزام تعاليم الدين بما يخدم فكرة التحرر والسيادة والكرامة والتطور واستعادة الحقوق وليس كما يراها الكاهن أو الزعيم «فحيثما توجد عدالة يوجد الدين وحيثما يوجد حق يوجد الدين وحيثما توجد المساومات مهما كانت مبرراتها يوجد تجار دين (…) الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات، فالمرء إما أن يكون حراً أو لا يكون».
جرب كل أنواع النضال. في القبيلة والمدرسة والجامعة. استقال من المجلس الطلابي المنتخب لأنه اكتشف أن العملية الديموقراطية التي جرت لم تحقق تمثيلا صحيحا لمختلف الطلاب، وعندما خيّره العميد بين العودة عن استقالته وبين طرده من الجامعة اختار الطرد. خاض التجربة السياسية السلمية والعسكرية وجال الدول الافريقية للتعبئة وحشد الانصار لقضية التحرر وعندما عاد وجد السجن في انتظاره ليمكث فيه 28 عاما. لم يساوم في أي مرحلة حتى عندما عرضت عليه الحرية مرات كثيرة مقابل موقف سياسي واحد وكان رده أنه إذا خرج من السجن في الظروف نفسها التي اعتقل من اجلها فسيسير على الدرب نفسه الذي أوصله إلى السجن.
خزن كل تجربته في عبوة أخلاقية أطلقها في وجه العالم. راهن على الأجيال الجديدة وبعضها لا يعرف بوجود جنوب أفريقيا على الخريطة. أشرقت شمسه من سجنه ربيعا على العالم ولم تكن مصادفة أن الصحافة الأفريقية أطلقت عليه قبل عقود لقب «زهرة الربيع السوداء». خاطب الضمير والوجدان والمشاعر. أدرك أن القيم الإنسانية أقوى أحيانا من السلاح النووي إذا احسن الدخول إلى مختبراتها، وأدرك أن الصمود والثبات والايمان والرأس المرفوع والتفاؤل والقلب النابض بالامل كلها عوامل جاذبة للتعاطف وكارهة لسياسات التمييز والقمع والظلم. ومثلما قدم نموذجا للوطني المقاوم ونموذجا لرجل الدولة قدم مانديلا نموذجا ديموقراطيا مميزا حين أعلن تخليه عن السلطة بعد خمس سنوات فقط من تزعمه لها لانه شعر بانه تعب جسديا من جهة وبأنه لا بد أن يكون القدوة في التداول السلمي للسلطة عن طريق الانتخاب.
في طفولته أسماه والده «المشاغب» وفي مراهقته أطلقوا عليه لقب «المبجل» تيمنا بأحد الأسياد التاريخيين لقبيلته. رفاقه أطلقوا عليه القاب «المناضل» و«الشجاع» و«القائد» و«الزعيم»، والعالم أطلق عليه لقب «الرمز» سجينا ورئيسا… يرحل مانديلا اليوم وهو يشعر انه سيدفن في كل دولة وكل أرض بعدما نجح في تكوين كيان خاص لسيرته يتجاوز جسده إلى حضوره، وحضوره طاغ في العقول والقلوب والوجدان والضمائر… «الجبناء يموتون مرات عديدة قبل موتهم ، والشجاع لا يذوق الموت إلا مرة واحدة».
رحل مانديلا… أزيلت كل الخيام التي نصبت أمام السفارات تضامنا معه. صارت سماء الكرة الأرضية كلها خيمته الزرقاء… لم يكن زهرة الربيع السوداء… كان الربيع بكل زهوره.

جاسم بودي
المصدر جريدة الراي

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.