من عباراتنا الشائعة في لوم النفس والنقد الذاتي ان نقول اننا «لا نتعلم من التاريخ»، ألا يحمل هذا الاعتراف في ثقافتنا العربية والإسلامية اي دلالة؟ فلمن اذن كتبت هذه الكتب والمجلدات؟ ولاجل ماذا وقعت الانقسامات وقطعت الرقاب؟ ومن المسؤول عن فشلنا في التعلم من تاريخنا؟
لكي نستفيد حقا من دروس التاريخ، لابد ان نطلق حرية البحث والدراسة. الحرية لمن يريد ان يدافع ولمن يريد ان ينتقد ويهاجم، ولمن يريد تفنيد آراء المستشرقين والمشككين والشعوبيين، ولمن يريد ان يدافع عن آرائهم ويورد ادلة جديدة، وكذلك لمن يريد التصدي لهؤلاء وبيان مخاطر افكارهم، ولمن على العكس يرى في هذه النظرات الجديدة قفزة كبرى للفكر العربي والثقافة الاسلامية، بكل ثقة، الى الامام!
ثمة وهم فكري بيننا فحواه ان مصير انحسار او انتشار اي رأي او فكرة يقرره كتاب واحد يدافع او ينتقد! ولو استعرضنا ما يصدر من كتب في الثقافات الغربية مثلاً، كالانجليزية والفرنسية، لوجدنا العشرات وربما المئات من الكتب التي تهاجم وتدافع وتدرس وتحلل كل الافكار والشخصيات والحوادث التاريخية، وتعيد النظر في الكثير من الثوابت والرواسخ!
لا تعرف الثقافات الحية خرافة اسمها «الكلمة الأخيرة» حول اي حدث او فكرة او عقيدة او واقعة او شخصية. وسرعان ما ترفع في هذه الثقافات دعاوى الاستئناف، وتفحص الادلة، وتقدم قرائن مكتشفة للخروج بحكم جديد. مثل هذه المحاكمات المستأنفة، تلقي الرعب في قلوب المدافعين عن بعض اركان ثقافتنا.
في العالم العربي ربما اكثر من ألف قناة تلفزيونية او لنقل 500 فقط. ولكن هناك رؤية واحدة للتعامل مع «العناصر المزعجة» في ثقافتنا. وكل رأي يهدد المياه الراكدة يجعلنا نبحث عن أصابع التخريب ومخططات التآمر ودعوات التفكيك والتقسيم.
احد مخارجنا الحضارية من هذه الازمة، إن كنا نريد حقا دراسة تاريخنا بحرية ومسؤولية، اقسام التاريخ والعلوم الاجتماعية وكليات الادب والشريعة مثلا. فأساتذة الجامعات مثلا يحملون عادة شهادات الدكتوراه التي تعترف بقدرتهم على «تشريح» و«معالجة» القضايا الخلافية ومشاكل التاريخ والدين واللغة والصراع الاجتماعي ومؤسسات المجتمع.
ولكن الجامعات العربية في الغالب امتداد «تعليمي عال» للنظام السياسي والثقافي السائد، ومعظم الاساتذة بالكاد يجدون الوقت للتدريس وتصحيح اوراق الامتحانات، دع عنك ان يفجِّروا في دنيا العرب قنابل الفكر والثقافة او يلقوا صخرة او حجارة في المياه الراكدة.
من اسباب استمرار الجمود والجهل وغياب البحث الاصيل، الى جانب الضغط الحكومي، كسل الباحث والاستاذ الاكاديمي، وايثاره سرعة الارتقاء والتربح، وحرصه على الوظيفة بتجنب القضايا الشائكة والمسائل المعقدة وتجشم متاعب البحث والتأليف.
ومنها كذلك عدم كفاءة الكثير من الاكاديميين للغوص في مجالات البحث العميق، كالذي نراه في مؤلفات المستشرقين وحتى عموم الباحثين الغربيين من اتقان اللغات والمرابطة في المكتبات، والتطبيق الصارم لمناهج البحث العلمي. وليتنا نخجل ونسكت ونتوارى، فالواقع ان بعض مؤلفينا يصبحون من نجوم الفكر والثقافة في بلادنا لمجرد تهجمهم على الباحثين الغربيين.
وكم من مرة اجمع المثقفون العرب والمسلمون على دراسة الغرب مثلا بمنهج اسموه «الاستغراب»، او حتى تصنيف الكتب التاريخية التي تضاهي كتب المستشرقين، ولكن بقي ذلك كله في عالم الاماني.
ثم اين المكتبات ومراكز البحث وخدمات «البنية التحتية» في مجال الفكر؟ واين نظم استعارة الكتب المتقدمة بين مكتبات الجامعات العربية كما في مكتبات أوروبا وأفريقيا؟ بل من الأوروبيين والامريكان من يتبرع بمبالغ خيالية لدعم المكتبات والابحاث، ويرصد الملايين والمليارات، بينما لا تجد الا نادرا ثريا عربيا او احد اثرياء العالم الاسلامي يهتم بشيء من هذا.
نحن في الواقع بين مهمل لتاريخه، او خائف من دراسته بحرية، او مبالغ في تمجيده مقدس لكل ما فيه من أساطير!
ولكن بعكس كل هذه المشاكل والمصاعب، هناك كتب تصدر باستمرار، دينية وتاريخية واجتماعية، مكتوبة بلغة سياسية حماسية، لجمهور تائه متعطش.. يُسقى بالمزيد من الماء المالح!
«تاريخنا المفترى عليه» للشيخ يوسف القرضاوي، «التفسير الاسلامي للتاريخ»، للدكتور عماد الدين خليل، «المنهج الاسلامي لدراسة التاريخ وتفسيره» لمحمد رشاد خليل، وكتب كثيرة اخرى لو ترجمت او عرضت في الاوساط العلمية، لبكى المستشرقون على حالنا!
خليل علي حيدر
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق