قبل أيام كتب الأخ العزيز فؤاد الهاشم “بو عبدالرحمن” مقالاً رائعاً كالعادة في جريدة “الوطن” تحدث فيه عن تجربته ومعاناته أثناء زيارته الشجاعة لجمهورية الجزائر الشقيقة، وذلك أثناء فترة الاحتلال العراقي لبلدنا الحبيب، والتي استمرت يومين حتى تم ترتيب مغادرته إلى لندن بلد النصارى، حيث وجد الأمن والأمان فلو تم ترحيله إلى بغداد لنال شرف لقب “شهيد” أو مرحوم أو غير ذلك حسب المصدر الذي سيمنحه اللقب، ولحرمنا من مقالاته وزاويته المميزة في جريدة الوطن التي أعتز بذكريات جميلة معها، فقد كانت النافذة التي أطل من خلالها على الوطن الكويت أثناء رحلة العمل في كل أرجاء المعمورة خدمة لهذه الأرض الطيبة.
أثار ذلك المقال شجوني وأعاد ذكريات تلك الأيام، فإن كنت أخي تحدثت عن معاناة يومين في الجزائر فما بالك بمعاناتنا على مدى سبعة أشهر الاحتلال أنا والعائلة وأعضاء السفارة، وهم الأخ العزيز حمد بو ارحمة وبدر العتيبي رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه، إضافة إلى إخوة أعزاء انضموا لنا لدعم عمل البعثة وهم الأخ العزيز سامي الإبراهيم والأخ العزيز فوزي المضف، والأخ العزيز زبن العتيبي، بهذا العدد القليل واجهنا نشاط السفارة العراقية التي تضم العشرات من العناصر مع شارع وإعلام منحاز وأحزاب تتسابق في عدائها لنا، وكانت الأحزاب الإسلامية أشدها قسوة.
تنوعت معاناتنا من تهديد بالقتل حيث سربت لنا برقية صادرة من بغداد تحت عنوان “توجيه رئاسي” يأمر بوقف نشاط السفارة الكويتية باستخدام كل الطرق بلا استثناء، كما قام أحد عناصر السفارة العراقية من خلال طرف ثالث بالطلب منا بتسليم جوازات السفر الكويتية الاستبدالها بجوازات سفر عراقية، إضافة إلى التهديد بحرق المنزل، وزرع المتفجرات في مجمع البعثة، وقد قامت السلطات الجزائرية مشكورة بتوفير عربة عسكرية أمام مدخل المجمع مع تزويدنا برقم هاتف فرقة خبراء كشف المتفجرات، فغدونا زبائن لها، كما رفضت بعض المحال والأسواق التعامل معنا، وهنا تطوع بعض النصارى “جزاهم الله خيراً” بعرض المساعدة كالسفير الأميركي والبريطاني، وكذلك الأخ العزيز طارق الهيدان نائب وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة العزيزة، وكان وقتها يشغل منصب سفير للدولة الشقيقة، ولعل أخطر تلك المعاناة وأشدها إيلاما التهديد بإيذاء الأولاد فأوقفنا ذهابهم للمدارس، وقامت السيدة الفاضلة “أم عبدالله” بتدريسهم في المنزل بما توافر من مناهج.
وتعود بي الذكرى إلى مساء يوم الأربعاء الموافق الأول من أغسطس عام 1990، أي قبل يوم من الغزو الغادر تلقيت اتصالا من السفير العراقي المعتمد في الجزائر آنذاك، وكنا نرتبط بعلاقة عائلية حميمة “واعفيني من ذكر الاسم”، وقد اقترح أن نذهب إلى مدينة تيبازا الساحلية، في الطريق لاحظت أن الرجل قد بدا وكأن جبالاً من الهمّ قد رزحت على صدره، ويحدث نفسه أحياناً، عند استفساري منه عن سبب همه انفجر قائلاً “والله مو عارفين وين رايحين، يبون يدمرونا، بو عبدالله رجعني البيت” لم أناقشه في قراره، وعدنا أدراجنا، قبل أن ينزل من السيارة سألته عما إذا كان يريد أن يقول لي شيئاً؟ فأجاب: “دير بالك على نفسك وعلى العائلة الكريمة، والله ويانا ووياكم”. ثم مشى وهو يجر قدميه، وقد تلقيت منه اتصالاً في يوم الغزو، حيث قال “بوعبدالله دير بالك على حالك وعلى أختي أم عبدالله والأولاد والله يحفظنا ويحفظكم”، ثم قفل الخط.
بعد ذلك بأسابيع غادر السفير وعائلته الجزائر إلى إحدى الدول الأوروبية، حيث طلب حق اللجوء السياسي، وبعد أيام من التحرير وفي إحدى الأمسيات وبينما كنا نشاهد ما تنقله الفضائيات العالمية من فرح وابتهاج في الشارع الكويتى حيث خرج الشعب عن بكرة أبيه وهو يلتحف بالعلم الكويتي الذي تخفق له وجدان كل من يحمل ذرة حب لهذا الوطن الغالي، في تلك الأمسية تلقيت اتصالا من السيد درويش العرادي رحمه الله مدير المراسم في الديوان الأميري في ذلك الوقت، حيث أبلغني أن هناك برقية في السفارة تحمل توجيهات من سمو أمير البلاد نرجو تنفيذها بأسرع وقت، ذهبت إلى السفارة فوجدت برقية واردة من السفارة في الرياض بتوقيع الأخ الفاضل سليمان ماجد الشاهين، ومضمونها بما معناه “بأمر من سيدي أمير البلاد حفظه الله ورعاه، يرجى مغادرة الجزائر بأسرع وقت ممكن دون إبلاغ الجهات المختصة، مع إبلاغنا عن الجهة التي ستغادرون إليها لترتيب أمور السكن”.
أخي الفاضل “بوعبدالرحمن”، لك كل الشكر والتقدير على إثارة هذه الشجون، إن ما مرت به الكويت الغالية لم تمر به دولة في العالم، فيه الكثير من الدروس والعبر، ولكن البعض منا تناسى ذلك، ولعلك توافقني الرأي بأننا لم نعد نخشى على الكويت من عدو خارجي بقدر خوفنا عليها من بعض أبنائها والحاقدين عليها وأصحاب المصالح الضيقة. حفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق