من الأصح؟ الإسلاميون أم الليبراليون؟
الجواب ببساطة أن الجميع هم جزء من مكونات المجتمع وأن غالبية حروب الاقصاء التي خاضها الليبراليون ضد الإسلاميين وبالعكس إنما كانت كمن يحفر في اساسات بيته. والمشكلة أننا ما زلنا نجد حتى وقتنا الراهن ومن الطرفين، الإسلامي والليبرالي، من يرغب في انهاء وجود الآخر سياسيا مستفيدا من ضعفه في منعطفات ومراحل معينة أو من يرغب في الانتقام من الآخر إذا عادت سلطته… أليس هذا هو التخلف بعينه؟
الإسلاميون والليبراليون من المكونات الاصيلة لمجتمعنا. يعملون ويجتهدون ويستقطبون ويخوضون المعارك الشعبية والسياسية، ومن يحقق مطالب الناس بشكل افضل يكون اسلوبه أفضل وبرنامجه أفضل وطريقته أفضل. طبعا سيقول البعض إن هذا الكلام ضرب من المثالية ويفيد في الحديث عن السويد والدنمارك لا عن الخليج والعالم العربي عموما، ونحن نرد بأن أشياء كثيرة قيلت في السابق عن ضرورة خروج العرب من دوامة الجمود إلى رحاب التغيير… كانت تواجه ايضا بتهمة «المثالية» واللاواقعية الى ان انفجر غضب الناس بدل الانتقال التدريجي المدروس إلى صيغة افضل.
اظهرت التجربة استحالة إلغاء طرف لآخر، كما أظهرت أن الحرب بين الإسلاميين والليبراليين لا تؤدي إلا إلى العقم في التفكير والشلل في الممارسة، وان الوقت لا ينتظر تجارب صدامية أخرى لأن القوافل تسير بأسرع مما نتوقع. واذا لم يكن كل ما فات كفيلا بأن نتعلم الدرس جميعا فلا يجوز لنا أن نتطلع إلى التغيير بالوسائل نفسها التي استخدمتها الأنظمة الديكتاتورية.
المدخل الحقيقي الحضاري للتقارب، كمدخل للتعاون، هو ان يبادر الطرفان الى نقد سلبيات التجربتين، فكرا وممارسة، انطلاقا من الحرص على تنقيتهما من الشوائب وعلى قيام نهج جديد يتجاوز مصلحة الأطراف نفسها إلى المصلحة الوطنية العامة. هذه المراجعة تنقل العمل السياسي من دائرة الحدة إلى رحاب الرقي وتضع حدا للخلط المزمن بين مصلحة كل طرف ومصلحة البلد.
في هذه العجالة، لا بد لي أن استحضر مراجعتين أعتز بهما بغض النظر عن قربي أو بعدي من مواقف وأفكار مطلقيها. الأولى للأخ الدكتور فهد الخنة الذي ألقى كلمة صادمة في إحدى الندوات تستحق بحق أن تكون نموذجا لكل القوى لأن تقوم بالمراجعة نفسها. يقول الخنة إن عددا من التيارات الإسلامية لا يعطي «النموذج الذي يؤتمن على مستقبل الامة»، وأن المنظمات الإسلامية تقوم على النظام الاحادي، معتبرا الليبراليين «جزءا من الأمة الإسلامية يجب أن نعطيهم حقهم في التفكير».
المفتاح الأول في هذه المراجعة وجده الخنة في العبارة التالية «للأسف نحن كتيارات إسلامية لا نعطي موضوع حقوق الإنسان حقه» واصلا إلى خلاصة «أن الإسلاميين لم يكونوا مختلفين كليا عن العلمانيين» عندما تسلموا السلطة في السودان وإيران إضافة إلى تجربتهم الحزبية في الجزائر. المفتاح الآخر لخصه الخنة بأن الأمة الإسلامية تعاني من افتقارها لسعة الصدر، ليؤكد ان التيارات الإسلامية وغير الإسلامية «أمة واحدة وذلك لان الليبراليين جزء منا كأمة إسلامية ويجب أن نعطيهم حقهم في التفكير».
المراجعة الأخرى قام بها محمد منصف المرزوقي الذي انتقل من ساحات النضال العمالي والزنازين والمنافي إلى القصر الجمهوري في تونس حاملا تقاليد راسخة في مجالات حقوق الإنسان والمجتمع المدني. فالرجل في مختلف مواقفه ومداخلاته لا يدعي ان اليسارية أو الليبرالية مساوية للحرية. يفصل تماما بين القيم المطلقة والأفكار السياسية أو الأيديولوجيات، ولذلك فهو لا يعتبر ان من يحارب أفكاره الشخصية يحارب الحريات أو يدعو الى الديكتاتورية، ويقول ان عليه الاصغاء للمنتقدين فقد يكونون على حق، مؤكدا وجوب عدم إيمان أنصار التيار الذي يمثله ايمانا مطلقا بنجاعة الفكر الذي يعتنقه «لأن احتكار أي مذهب سياسي لمفهوم الحرية قد يكون ضربا من ضروب الخطيئة».
وبعدما انتخب المرزوقي رئيسا لتونس طالب بالبحث الجدي في سبل للتقدم الاجتماعي «خارج طرق التفكير التقليدية الليبرالية الكلاسيكية». كما انه كان أول المهنئين للتيار الإسلامي الفائز في الانتخابات معتبرا ذلك «نصرة للديموقراطية وليس للإسلامية»، ومعربا عن ثقته في حزب النهضة «كحزب إسلامي وديموقراطي».
مراجعتان من موقعين مختلفين لرجلين في بلدين مختلفين خاضا تجربتين مختلفتين واعتنقا مذهبين سياسيين مختلفين، لكنهما في الخلاصة تؤديان الى نتيجة واحدة: الرقي المطلوب في العمل السياسي لمصلحة الوطن والمواطن بغض النظر عن كونك إسلاميا أو ليبراليا أو يساريا أو… أو…
إن لم نفتح هذا الحوار الحضاري داخل بيتنا ونوسعه فلا أمل لنا بمحاورة «الآخر».
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق