يدور الآن حوار دستوري وسياسي حول تجربة النظام الانتخابي بتقسيم الكويت إلى خمس دوائر انتخابية ومدى دستوريته ومدى جدواه… وللأمانة والإنصاف، فإن ما تتمتع به الكويت من حراك سياسي وحيوية متدفقة في تجربتها الديمقراطية، يجعل الحوار والجدل الدستوري حول هذه القضية المهمة أمراً طبيعياً، ذلك أن نظام الانتخاب هو وسيلة الشعب لحكم نفسه بنفسه، وحيث لا قيام لنظام ديمقراطي برلماني من غير وسيلة الانتخاب، ولذلك فإنه بقدر ما يحقق نظام الانتخاب للهدف منه، بقدر ما يكون نظاماً ديمقراطياً ونظاماً دستورياً، وبقدر ما يقعد عن تحقيق هذا الهدف بقدر ما ينكص النظام الديمقراطي والنظام الدستوري على عقبيه.
تطور النظام القانوني للانتخاب:
ويكشف تطور النظام القانوني للانتخاب منذ أن تم تقسيم الكويت إلى دوائر انتخابية في سنة 1961 بالقانون رقم (25) لسنة 1961 بنظام انتخاب أعضاء المجلس التأسيسي، معدلاً بالقانون رقم (28) لسنة 1961 أن تقسيم الكويت إلى عشر دوائر هو الذي تم على أساسه انتخاب أعضاء المجلس التأسيسي، كما جرت على أساسه انتخابات مجلس الأمة، لخمسة فصول تشريعية إلى أن صدر المرسوم بقانون رقم (99) لسنة 1980، فقسم الكويت إلى خمس وعشرين دائرة، والذي تمت فى ظله انتخابات مجلس الأمة لسبعة فصول تشريعية إلى أن تم تعديل القانون بتقليص عدد الدوائر الانتخابية إلى خمس دوائر، يفوز في كل دائرة منها عشرة مرشحين، وهو النظام الذي جرت على أساسه انتخابات 2009 و2012.
النظام الانتخابي ليس حقلاً للتجارب:
وقد كان لي رأي في دراسة علمية نشرت في أكتوبر سنة 2010 قلت فيها بالحرف الواحد “إن أي نظام جديد للانتخاب أو لتحديد الدوائر الانتخابية إن لم يكن مقطوعاً بدستورية ومدى اتفاقه مع المعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبجدواه من حيث توسيع دائرة المشاركة الشعبية وتعزيز المؤسسات الدستورية، ليس مقبولاً أن يؤخذ به على سبيل التجربة، لأن تجربة تنظيم جديد يتعلق بتشكيل المؤسسة التشريعية قد تجني الممارسة الديمقراطية ثماره لسنوات طويلة، قد تترسخ فيها مبادئ وتقاليد لا تتفق والأصول البرلمانية السليمة، وتترك ظلالها وبصماتها لفصول تشريعية قادمة”.
حصاد الدوائر الخمس:
والواقع، أن ما يصلح من نظام انتخابي لبلد قد لا يصلح لبلد آخر، وأن تقليص عدد الدوائر الانتخابية لا يصلح إلا في الدول الديمقراطية التي تأخذ بنظام الأحزاب ونظام القوائم وليس نظام الانتخاب الفردي، والبرامج التي تطرحها هذه الأحزاب والتي يفترض أنها تختلف من حزب إلى آخر، وهو ما أوقع تجربة الدوائر الخمس في مأزق كبير، عندما حصدت التجربة الأخيرة للدوائر الخمس تكتلاً برلمانياً كبيراً يقصي الأقلية عن المشاركة في العمل البرلماني، بما يتخذه هذا التكتل من قرارات في اجتماعات تعقد خارج قاعة “عبدالله السالم”، وتفرض على المشاركين فيها التصويت في الاتجاه الذي انعقدت عليه إرادة الأغلبية في هذه الاجتماعات، وقبل الاستماع إلى رأي الأقلية التي أقصيت عن هذه الاجتماعات.
وربما ساهم في ذلك أن تقليص عدد الدوائر الانتخابية في غياب نظام الأحزاب، لم يمكن الناخبين من التعرف على جميع المرشحين والمفاضلة بينهم، كما حرم المرشحين كذلك من المزايا التي تتيحها لهم الدوائر الصغيرة من إظهار مزاياهم ومزايا برامجهم والتنافس الحقيقي للحصول على أصوات الناخبين، بعكس الدائرة الانتخابية الكبيرة التي يفقد الناخبون فيها شعورهم بأن تصويتهم يمكن أن يكون مجدياً لمن يرون أنه أصلح من غيره في تمثيلهم.
الإرادة الحقيقية للمشرع الدستوري
وقد كشفت مناقشات المجلس التأسيسي ولجنة الدستور عن الإرادة الحقيقية للمشرع الدستوري، عندما وجه أحد الأعضاء سؤالاً إلى الخبير الدستوري حول الأساس الذي تقسم عليه الدوائر الانتخابية؟ فأجاب بأن “قوانين الانتخاب في تحديدها الدوائر الانتخابية، إما أن تقوم على أساس عدد السكان، وإما أن تكون على أساس جغرافي، فكلا الأمرين وارد” (مضبطة الجلسة 21 ص6).
وفي لجنة الدستور يقول الخبير الدستوري “إنه كلما كان نطاق الدائرة أقل كلما قربنا التمثيل من الديمقراطية الصحيحة” (مضبطة الجلسة 11 ص2).
ولهذا حرص المجلس التأسيسي على الأخذ بنظام الدوائر العشر الذي انتُخب المجلس التأسيسي على أساسه، تم تعديلها بعد ذلك إلى 25 دائرة في تمام عام 1981 نتيجة زيادة عدد السكان، وذلك لرغبة المشرع في تقريب المرشحين من الناخبين.
معالجة تثير شبهة:
ولعل قصر حق الناخب في التصويت على أربعة مرشحين، كان القصد منه هو معالجة بعض الآثار السلبية لتقليص عدد الدوائر إلى خمس، حيث لا يتمكن الناخب من التعرف على جميع المرشحين في الدائرة، ولكي تتاح للفئات والتوجهات والأطياف المختلفة كافة تمثيل الأمة في البرلمان، إلا أنه ألقى ظلالاً من الشك والريبة حول شبهات عدم دستورية حرمان الناخب من اختيار النواب العشرة في الدائرة، وقصر حقه على انتخاب أربعة فقط، وهو ما ينطوي على مخالفة ما تنص عليه المادة (108) من الدستور من “أن عضو مجلس الأمة يمثل الأمة بأسرها”، لأن مناط تمثيل الأمة بأسرها أن يمارس كل ناخب حق الانتخاب، بانتخاب جميع أعضاء المجلس، وليس عدداً محدوداً منهم، فإذا استعصى ذلك لاعتبارات دستورية وهي شبهة عدم الدستورية التي تتعلق بالدائرة الواحدة، لأن الدستور فيما نص عليه في المادة (81) من أن “تحدد الدوائر الانتخابية بقانون” قد عنى ما أراده من استبعاد فكرة أن تكون الكويت دائرة انتخابية واحدة، فعبارة “الدوائر الانتخابية” تدل على التعدد، لا على الإفراد، ولو أراد الدائرة الواحدة لنص على أن “تكون الكويت دائرة انتخابية أو أكثر وفقاً لما يقرره القانون”.
فضلاً عمّا يراه بعض الفقه الدستوري من أن الدائرة الانتخابية الواحدة على مستوى الدولة صفة من صفات النظام الدكتاتوري، حيث ارتبطت الدائرة الواحدة بالنظم الدكتاتورية، في نظام الفاشية في إيطاليا الذي كان يدلي فيه الناخب بصوته لاختيار 400 نائب في كشف أعده مجلس الفاشيست الأعلى، بنعم أو لا، إلا أن هناك من الدول لا تزال تأخذ بالدائرة الواحدة حتى الآن، وهي موناكو وهولندا والبارغواي وإسرائيل.
زيادة عيوب التمثيل النسبي
من المقرر أن فوز النائب بمقعد البرلمان لحصوله على أغلبية نسبية متقدمة هو أبغض الحلال في النظام الديمقراطي، فرضتها الضرورات العلمية بالرغم من أنها ليست أقرب إلى التعبير عن إرادة الناخبين من الأغلبية المطلقة، التي يصعب تحقيقها على مستوى الدوائر الصغيرة المتعددة، ولكنها تعتبر ضرباً من الاستحالة في الدائرة الكبيرة.
ذلك أن فوز المرشح بالأغلبية المطلقة لأصوات الناخبين الصحيحة في الدائرة هو غاية تسعى إليها الديمقراطية، حتى يكون النائب أقرب إلى التعبير عن إرادة الناخبين وإرادة الأمة مصدر السلطات جميعاً، ولهذا حاول قانون الانتخاب الفرنسي سنة 1966 التقليل من عيوب التمثيل النسبي باشتراط حصول المرشح على أصوات ربع عدد الناخبين المقيدين في سجل الناخبين على الأقل.
الابتعاد عن مفهوم الانتخاب الفردي:
إذ لا يستقيم نظام الدائرة الانتخابية الكبيرة، مع الحق الفردي للانتخاب بأن يكون لكل ناخب صوت واحد،one man one vote، بل يقوم هذا النظام على تعداد الأصوات بقدر عدد النواب الممثلين للدائرة، وهو ما أسهبت المذكرة الإيضاحية للمرسوم بقانون رقم (99) لسنة 80 في بيان مضاره على التجربة الديمقراطية، حيث جاء فيها “أن طريقة التعدد لا تتبع إلا في الدول التي بها أحزاب”، كما قررت كذلك أن تقسيم البلاد إلى دوائر انتخابية صغيرة تنتخب كل منها نائباً واحداً، هي الطريقة التي تيسر مهمة الناخب في التفكير والاختيار وليس دون رؤية أو اختيار سليم.
إضعاف مبدأ سرية الاقتراع:
عندما يكون الناخب مطالباً بالمفاضلة بين عدد كبير من المرشحين، فيطلب معاونة رئيس اللجنة في إرشاده إلى الأعضاء الذين وقع اختياره عليهم، بما يهدد سرية الاقتراع، ويشجع على انتشار الرشوة الانتخابية.
ترتيب المرشحين:
ويأتي ترتيب المرشحين في الدوائر الخمس أو الدائرة الكبيرة عائقًا دون انتخاب الأفضل في قائمة المرشحين عندما يحصل المرشحون الذين ترد أسماؤهم في أول الكشف بميزة على غيرهم عند كثير من الناخبين، دون مقتضى أو مبرر سوى الترتيب الأبجدي للأسماء، وتعزيز ظاهرة الرشوة الانتخابية وظاهرة الانتخابات الفرعية، على مستوى الدولة كلها.
وإذا كنا نفضل العودة إلى النظام السابق بتقسيم الدوائر الانتخابية إلى خمس وعشرين دائرة في الحوار والجدل الدائر الآن حول تقسيم الدوائر، فإننا لا نبرئ النظام الحالي من كل عيب، ولعل بعضه في تفاوت الثقل النسبي للصوت الانتخابي من دائرة إلى أخرى، عندما يفوز مرشح حصل على أقل من خمسمئة صوت في الدائرة الخامسة والعشرين، ويسقط مرشح حصل على أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمئة صوت في الدائرة 21.
وقد قضت المحكمة العليا الاتحادية في الولايات المتحدة في قضية ولسبري ضد ساندرز سنة 1964 بعدم دستورية التفاوت بين عدد سكان الدوائر الانتخابية، بسبب تفاوت الوزن النسبي لصوت الناخب بتفاوت عدد الناخبين الذين يختارون واحداً في كل دائرة.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق