داود البصري: غزو الكويت بعد 22 عاماً من الزمان

في الثاني من اغسطس عام 1990 وفي غمرة حالة غير مسبوقة من الحركية الإقليمية و محاولات إعادة تشكيل المنطقة العربية سياسيا, وبعد عامين كاملين من نهاية أشرس و أطول حرب إقليمية, وهي الحرب العراقية – الإيرانية (1980/ 1988) أكلت من أرواح واقتصاد أهل المنطقة الشيء الكثير, قام النظام العراقي السابق (نظام صدام حسين) بأكبر مغامرة ذات أبعاد إجرامية في تاريخ المنطقة تغير معها وبنتائجها شكل العالم بأسره, وانتج ما عرف, وقتذاك, بالنظام العالمي الجديد! وكان جديدا فعلا بما حققه من متغيرات وأفرزه من أولويات, وبما تمخض عنه من “خيار أوسلو” الذي رسم خطا بيانيا جديدا ومختلفا للقضية الفلسطينية, في ذلك الصيف اللاهب حدث المحظور والذي لم يحدث منذ بداية عصر النهضة القومية العربية الحديثة, وقام جيش النظام العراقي السابق بقفزة ومغامرة في المجهول عبر احتلال دولة عربية جارة وشقيقة وقفت معه و مع معاركه في أشد لحظاته حلكة و صعوبة!, وقامت قطعات هائلة من ذلك الجيش ومنذ ساعات الصباح الأولى لذلك الخميس الحار الملتهب المرعب باحتلال دولة الكويت وشن حرب إبادة على هوية تلك الدولة وعلى وجودها الكياني, ليعلن نظام العراق عن أطروحته المخفية لعقود والمتمثلة في حكاية “عودة الفرع للأصل”!, وضم دولة الكويت بكل كيانها وهويتها وتجربتها السياسية الثرية لتتحول للمحافظة التاسعة عشر لعراق البعث البائس, وليعشعش الخراب والتخلف في أرجائها, ولتمارس أول عملية ضم قسرية على الطريقة البسماركية في العالم العربي في زمن لم يعد يصلح أبدا لتلك الحلول والإجراءات الفاشية الفاشلة! لقد تحصن النظام العراقي وقتذاك بقوته العسكرية الكبيرة التي خرج منها بعد الحرب المكلفة مع إيران وبأوهام قوة لم تكن حقيقية وراسخة, بل كانت حالة انتفاخية متورمة لا تعبر عن حالة صحية بل عن أزمة مكتومة كما تبين لاحقا, كما اعتمد النظام العراقي وهو يجدف باستهتار فظ في المجهول على تركيبات لتحالفات سياسية هشة لا يمكن أن توفر له الغطاء الكافي لابتلاع دولة الكويت بيسر, فقبل عام ونيف من الغزو و تحديدا في فبراير 1989 دشن النظام العراقي تجربة تحالفية جديدة عرفت بمجلس التعاون العربي الذي ضم إضافة للعراق, مصر و الأردن و جمهورية اليمن الشمالي وقتذاك, وهو تجمع سياسي إقليمي أراده صدام حسين أن يكون محورا مخادعا وتنظيما يجمع “فقراء العرب”! كما أشيع وعرف وقتها ووفق أسلوب انتهازي مفضوح شعاره “قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق”! بطريقة ابتزازية مخادعة نجحت في شق العالم العربي و تحويله للأسف لمعسكرين متخاصمين بعد وقوع الواقعة, ولكن ذلك التجمع أعلن فشله منذ ساعات الغزو الأولى ليتلاشى ذكره وينسحب خائبا من مسرح التاريخ بعد موقف الرئيس المصري السابق حسني مبارك الذي تمرد على الصيغة التي أرادها صدام حسين.
لقد غزيت الكويت وسلبت شخصيتها على حين غرة, ولكن إرادة البقاء كانت أقوى من كل الدبابات و الطائرات وحملات القمع الوحشية, والتف الشعب الكويتي بمختلف أطيافه رغم ظروف المحنة والانكسار النفسي الرهيب حول شرعيته الدستورية و التاريخية التي خاضت غمار المواجهة الشرسة واستجابت للتحدي داخليا وخارجيا, وباشرت في بناء الحالة الوطنية الرافضة للاحتلال وفي تعزيز صمود مرابطي الداخل, وجاء مؤتمر جدة في أكتوبر عام 1990 ليكون بيعة تاريخية وشعبية للشرعية الكويتية وهي تلملم الموقف وتجمع أجزاء الصورة و تعد الكويتيين ليوم التحرير, فالقوة وحدها لا تصنع التاريخ ولا تهدم المؤمنين بحقهم و بحريتهم, لقد ولدت الكويت الحرة الجديدة من رحم المعاناة وعزز الدم الكويتي المقاوم ملف المناعة الوطنية واكتسب الكويتيون احترام العالم الحر الذي هب لنجدتهم ومساعدتهم في التخلص من الأسر الفاشي المدمر بعد ملاحم وطنية رائعة صاغتها المقاومة الوطنية الكويتية التي ردت على العدوان باستبسال تاريخي في ظل وحدة وطنية جميلة رسمت آفاقا لمستقبل حر وموعود وتحت قيادة فرسان التحرير الراحلين أمير الكويت الأسبق الشيخ جابر الأحمد ورفيقه في التحرير المغفور له الشيخ سعد العبدالله الصباح وخلفهما الأسرة الحاكمة الكريمة والشعب الكويتي الحر وحيث تحقق هدف التحرير المقدس في يوم 26 فبراير 1991 لتنحسر الفاشية البعثية من الربوع الكويتية وليضيق حولها الحصار قبل أن تختفي لاحقا من على مسرح التاريخ والأحداث.
الثاني من أغسطس 1990 هو قصة غدر أسود حاول القفز على التاريخ, كما أنه في الوقت نفسه قصة شعب كويتي صغير أثبت بمقاومته الشرسة بأنه شعب يصنع الحياة ويستجيب للتحديات ولا ينحني أو يركع إلا لرب العزة والجلال… وها هي الكويت الحرة بعد 22 سنة من الغزو لم تزل جوهرة الخليج العربي, وهي تنخرط في البناء و تمارس التحدي وتخطط للمستقبل… المجد كل المجد للأحرار, والرحمة للشهداء, وتاريخ الشعب الكويتي الحديث هو سلسلة من التحديات والنجاح برغم الأزمات الطارئة و التي تزيد المناعة الوطنية وتربك الأعداء والمتربصين.. وما أكثرهم.
* كاتب عراقي
dawoodalbasri@hotmail.com
المصدر جريدة السياسة

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.