خليل حيدر: «التعليم العالي».. لماذا انحدر

إذا تاملت المؤسسة الجامعية في اي دولة عربية، وجدتها في معظم الاحيان مؤسسة نخبوية منعزلة عن المجتمع وغير متفاعلة مع مشاكله وتوجهاته، دع عنك ان تكون رائدة في مجال تحديث المجتمع او تطوير الاقتصاد او التنسيق مع الوسط الزراعي او الصناعي او غيره وتجدها في احيان كثيرة مؤسسة مسيسة، تكاد تكون من مراكز الاستخبارات، ليس لها من التقاليد الاكاديمية والحرية الفكرية الا اقل القليل. وفي دول اخرى تجدها تزخر بالفساد المالي والاداري والتنفيع والمحاباة ، وتجد الاساتذة غير مؤهلين او مرتزقة او مجرد امتداد للحزب الحاكم واجهزته الاعلامية.
واذا نجت الجامعة من كل هذه الظواهر والمظاهر، والاعراض والامراض، وجدتها مزدحمة متخلفة شحيحة الامكانيات، بلا مكتبة عصرية ولا متخبرات تستحق الاسم.
ولايعني هذا ان الاستاذ الجامعي لايحاول الارتقاء بمجتمعه او تحسين احواله. ولكنه يعاني بدوره من ضغوط مجتمع تقليدي محافظ، او مجتمع يقوده حزب او تيار، او تتسلط على مقدراته «زعامة تاريخية»، يندر ان يجود بها الزمان!! ولكن الجامعات لم تعد كلها بيد الدول والحكومات والانظمة بل اصبح الكثير منها خاصاً يشرف عليها «مجلس ادارة».
ولكن هذه «الخصخصة» كما تسمى في المشرق، او «الخوصصة» كما تسمى في المغرب، لاتعنى ان الجامعة حرة حقاً، او انها تلعب دوراً متميزاً في اي ميدان.. بالضرورة. فالكثير منها «ثانويات اكاديمية»، ومؤسسات للربح والاستثمار، وهي على الدوام، حريصة على الابتعاد عن المنغصات ولهذا لن يكون اي منها «اوكسفورد» او «هارفرد» و «بيل».. الا ربما بمعجزة!
هذه الصورة المؤسفة التي رسمناها للواقع الاكاديمي في العالم العربي، عبرت عنها الباحثة الاماراتية، د. رفيعة غباش، بإسلوب اكثر دقة وربما اكثر تفاؤلاً، ولكن النتيجة في الحقيقة.. واحدة!
تقول د. غباش في ورقة مطولة لها عن التعليم في العالم العربي والتعليم العالي ودورهما في التعبير الاجتماعي، نشر ضمن اوراق كتاب «التحولات الراهنة» الصادر عن مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2007، انه من خلال التجربة العملية في الجامعات العربية والخليجية، «يتضح ان قصور دور الجامعة، نتيجة معوقات وممارسات من داخل الجامعة، وكذلك من المجتمع المحيط بها».
وتورد الباحثة النقاط والملاحظات الآتية.
1- غياب تأثير الجامعات في حركة المجتمع الاقتصادية والاجتماعية، لضعف فاعلية بحوث تقييم حاجات المجتمع ومتطلبات السوق، بالاضافة الى غياب ترويج الجامعات وتسويق ماتمتلكه من قدرات وخبرات وطاقات بشرية وغيرها.
2- غياب التشريعات او النشاطات التي تبحث في اسباب التميز والابداع لدى اعضاء هيئة التدريس في الجامعات العربية وكيفية اكتشافها.
3- تعطي الجامعة الاهتمام الاكبر للتدريس على حساب البحث العلمي وخدمة المجتمع، كما يعتمد استمرار عضو هيئة التدريس عاملاً في جامعته على قدرته في التدريس، حتى لو لم يمارس البحث العلمي على الاطلاق. «فقد تجد عضو هيئة تدريس يجري بحثين في العام الجامعي، وآخر لم يكمل بحثاً بدأه منذ ثلاث سنوات، وعضواً ثالثاً لم يجر بحثاً منذ تعيينه، وهو على وشك التقاعد».
4- لايتعدى دور الجامعة التوفيق والمحافظة؛ فهي تتكيف مع ماهو سائد في المجتمع من قيم وثقافة وعادات، ولذلك، تضيف الباحثة، لم يكن هذا الدور مصححاً او مطوراً او معالجاً لما هو قائم، بينما المفروض ان تقود الجامعة حركة المجتمع الى ماهو افضل.
5- لاتتمتع الجامعات العربية عموماً باستقلالية مالية أو ادارية حقيقية، وما لم يحدث ذلك فلن تكون مؤسسات التعليم العالي رائدة في تحقيق الاهداف والغايات الوطنية المنشودة.
6- هناك ندرة وعدم تكامل في البيانات حول اعداد العاملين في البحث العلمي والتطوير على مستوى العالم العربي. وما ينطبق على الدول العربية ينطبق بالضرورة على الجامعات الموجودة في دول مجلس التعاون.
7- ليس هناك احصاءات دقيقة حول عدد الابحاث التي ينشرها الباحثون في جامعات دول مجلس التعاون في التخصصات المختلفة، ولاعداد الكتب التي يؤلفونها.
8- هناك انخفاض واضح في تمويل البحث العلمي من قبل القطاعات الانتاجية والخدمية في البلدان العربية، ويستهلك معظم التمويل الذي تقدمه الحكومات للمؤسسات التعليمية في الاجور، وبنسب تصل احيانا الى %89، كما يتسم البحث العلمي في مؤسسات التعليم العالي والمراكز المرتبطة به بالطابع الاكاديمي عموما.
وتستحق الفقرة الاخيرة من ملاحظات الباحثة بعض التركيز، فهذه البحوث عادة يطغى عليها التنظير والعبارات الاكاديمية والتهرب من المشاكل الحقيقية في الجامعة والحياة العامة. ولا تشير هذه الدراسات الى حقائق الواقع ومسؤولية الموظفين الحكوميين مثلا أو الاساتذة أو الهيئات المختلفة. وهكذا، وعلى الرغم من المبالغ الطائلة التي تصرف على هذه «الدراسات»، وفخامة الورق والتجليد ومظاهر الاحتفاء، لا يلتفت اليها احد ولا تؤثر في الواقع الجامعي. ولو راجعت ارشيف أي جامعة في الدول العربية، فسترى اكداسا من هذه الاوراق والدراسات، التي كلفت الجامعات والدولة الملايين، وتحولت الى مجرد رزم ميتة من الاوراق فوق الرفوف.
تقترح د.غباش عدة حلول لتحسين مستوى التعليم الجامعي في العالم العربي، أودُّ الاشارة الى اثنين منها، فهي تدعو اولا الى ضرورة تحسين مكونات البيئة السائدة في مؤسسات التعليم العالي، اذ كيف يتميز الباحث أو عضو هيئة التدريس عندما يعمل في جامعة اجنبية لفترة عام جامعي أو فصل دراسي خلال اجازة تفرغ علمي، بينما لم يكن يعرفه احد أو يسمع به قارئ أو باحث في وطنه على الرغم من انه كان قد قضى اكثر من عقد من الزمن في جامعته الام؟
وملاحظة الباحثة هذه تتكرر باستمرار مع الكثير من الاساتذة المعارين من الجامعات العربية وربما بعض جامعات دول العالم الثالث. فما ان يصل الواحد منهم الى تلك الجامعات ويجد نفسه في تلك البيئة الحرة الخصبة في اوروبا أو الولايات المتحدة، ويحتك بالحياة اليومية المنتجة للافراد العاديين وللنخبة، حتى يكتشف امكانياته الدفينة، وتنتعش في كيانه ملكة الابداع!
وينطبق هذا كذلك على الاكاديميين العرب المقيمين هناك بشكل دائم، والاسماء كثيرة، حيث يبدع الواحد منهم اضعاف اضعاف زميله في أي جامعة عربية.
وتطالب د.غباش ثانيا، بأن تتمتع الجامعات العربية بالاستقلالية التامة في ادخال الاصلاحات المناسبة لها والمتوافقة مع توجهات السوق، ولها ان تضع نظام الحوافز الخاص بها، في اطار منافستها الجامعات الاخرى لضمان تحسين نوعية التعليم الذي تقدمه، وفي الوقت نفسه الحصول على عائد اكبر.
ولكن كيف يمكن للجامعة التي تطالب بها الباحثة، ان تكون «مستقلة» في البيئة العربية، وهي غالبا ما تعتمد على الدولة في تمويلها؟ ان الجواب يكمن في الجامعة المستقلة عن الدولة والتي تملك ميزانية ضخمة تبعد عنها شبح الضغوط والتدخل والابتزاز. وفي دول الخليج والعالم العربي اموال ورجال اعمال من النوع النادر على ايجاد مثل هذه الجامعات، ولكننا للاسف ما زلنا في اول الطريق.
ومشكلة الاستاذ الاكاديمي والباحث عموما في البلدان العربية ليست تحسب في المال والضمان، ومشاكل السلطة السياسية. بل عليه كذلك مداراة الشارع والتيارات السياسية التي كما قلنا في بداية المقال تهدد الجامعة والنظام القائم.. معا! معظم الحكومات، من جانب ثان، لا ترى في الجامعة والثقافة معركة تستحق الزوابع والمشاكل. وتكتفي بأن تكون الجامعة امتدادا لبقية مؤسسات التعليم القائمة، ومكانا يتكدس فيه الطلاب استعدادا للتخرج والحصول على الوظيفة الحكومية، وربما في احيان غالبة، عدم الحصول عليها.. وكفى الله المؤمنين شر القتال!
بقي ان نتساءل في الختام: من يقود الآخر الجامعة أم المجتمع؟ والجواب.. للأسف.. واضح!

خليل علي حيدر
المصدر جريدة الوطن

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.