جاسم بودي: رجال دولة اليوم..أو «لا دولة» ولا رجال غدا

يتضح يوما بعد يوم أن التغيير المنشود في الكويت نحو الأفضل لا يستقيم بوجود الطبقة السياسية الحالية سواء كانت في مفاصل النظام أو في واجهة المعارضة. وكي أكون صريحا أكثر أقول إن الكويت تفتقد لرجال الدولة الحقيقيين الذين تلمع معادنهم كالذهب أيام الازمات والمحن… وما أكثر أيامها بيننا.
ما أوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم هو غياب القرار الحازم والعادل في الوقت نفسه على مستوى السلطة وردود الفعل العشوائية أو «المبرمجة» على مستوى المعارضة.
لا ندافع عن النظام، بل إن بعض أركان النظام نفسه لا يجدون أي ذخيرة للدفاع عنه بعد سلسلة الاخطاء والخطايا، فهو المسؤول الاول عن الانهيارات الحاصلة في كل مناحي الحياة العامة كون السلطة التنفيذية تخلت عن دورها باتجاه أدوار أخرى، وقصرت في الاداء والسلوك والتخطيط والمتابعة، وشلت جسدها وجمدت روحها وتفرغت لمعركة الوصول الى السلطة، وخاض أبناء الاسرة حروبا ضارية امتدت من الكواليس الى الديوان فالإعلام فالبرلمان فالساحات العامة فوسائط التواصل الاجتماعي.
صارت الطعنات بين بعض أبناء الأسرة تتم مباشرة وبالأجرة عن طريق صفقات مع أطراف سياسية لضرب فلان وتهميش فلان في مقابل «تسوية افتراضية» تقضي بوعد للطرف السياسي المساعد بأن يحصل على مطالبه وأكثر منها ان وصل هذا الشيخ الى السلطة مستقبلا. انهارت منظومة القيم السياسية والمؤسساتية مع انهيار منظومة القيم الاخلاقية لبعض الاقطاب الذين أعمتهم شهوة السلطة فغذوا الحريق بالمال والوقود اللازمين، وانشأوا مؤسسات لهذا الغرض إعلامية واجتماعية وإلكترونية، ثم ساوموا «الاعمام» عليها لاحقا ماليا وسياسيا.
لا ندافع عن النظام ولا يمكن لاحد أن يفعل ذلك في ظل ترك المياه تجري من تحت الأرض ومن فوقها حتى تحولت الى سيل تصعب السيطرة عليه. ولا خير فينا إن لم نقلها. غاب رجال الدولة وترك الملعب للسفهاء الذين تقدموا الصفوف في السلطة فخربوا ولم ينجزوا وحركوا بعض الصفوف في المعارضة فخربوا ولم ينجزوا. كان النظام بحاجة ماسة الى رجال دولة حقيقيين من داخل الاسرة أولا ومن خارجها ثانيا لإعانته على الرقابة وضمان مبدأ الشفافية والنزاهة في كل اعمال السلطة التنفيذية، وقيادة مشروع دائم للتطوير والتغيير نحو الأفضل يشمل كل مجالات التنمية مع وجود جهاز ضخم لمتابعة تنفيذ المشاريع وكشف الهدر ومحاسبة المقصر ومعاقبة السارق والمخالف، واخيرا وليس آخرا المساعدة على ادارة العملية السياسية برقي وحلم وحكمة وعدل والتزام بالقانون والدستور والثوابت الوطنية وخلق كل المناخات التي تقي البلاد شر المرور في مطبات التطرف السياسي وغير السياسي عبر الاستيعاب والحوار ووصل ما انقطع.
«أعينوني»… كانت تلك الكلمة الدائمة لصاحب السمو الأمير لكل من التقاه عقب تسلمه مسند الإمارة. كلمة لا تختصر تواضع الحاكم فحسب بل تكشف إيمانه بالحرية والديموقراطية والتشاور الدائم مع شعبه وحرصه على أن يشارك الجميع في مسؤولية القرار… ولكن هل هناك حول ولي الامر صاحب السمو أمير البلاد مستشارون يتمتعون بكل هذه الصفات ورجال دولة من هذه القامات؟ طبعا هناك شخصيات مشهود لها بالاحترام إنما قد يكونون قلة بارعة في مجالها فقط من دون أن تكون هناك منظومة متكاملة لما نقصده.
هل هناك رجال دولة حول الحكومة وداخل مجلس الوزراء؟ قد يكون هناك وزير أو مجموعة قليلة من الوزراء صاحبة اختصاص وناجحة في عملها، إنما التجربة أثبتت أن أخطاء الحكومة صارت خطايا غير قابلة للتصحيح خصوصا أن الطعن والتسريب يخرج من اجتماعاتها، والمحسوبية والصفقات والمجاملات على حساب القانون والهيبة تخرج من ملفاتها وقراراتها، وصراعات الأقطاب تخرج من كواليسها.
هل هناك رجال دولة بين النواب؟ طبعا هناك نائب برلماني بامتياز، وهناك قانوني بامتياز، وهناك مخضرم بامتياز… لكنهم قلة قليلة من جهة، وتخصصاتهم لا تنقلهم الى مصاف رجال دولة من جهة ثانية لأن ذلك يحتاج مناخاً من العمل المتجانس المتكامل الطامح الى الانجاز وفق مصلحة الكويت لا وفق أجندات خاصة ومصالح خاصة كما رأينا في المجالس السابقة حيث تحول بعض النواب الى رصاص في بنادق الاقطاب المتصارعين، وبعضهم الآخر الى رأس حربة في المشاريع الطائفية والقبلية، فيما طالب آخرون بمشاريع وأمور مثل إسقاط القروض وفتح الموازنات بلا حساب ليثبتوا ان بعدهم عن رجال الدولة بعد الكويت عن كوكب المريخ.
هل هناك رجال دولة في المعارضة؟ هناك رموز معارضة تاريخية في الكويت سيسجل لها الكويتيون أنها سبقت عصرها في مفهوم رجال الدولة وأعطت دروسا في هذا المجال لمعارضين وسياسيين من دول مجاورة. لكن هذا المفهوم غير موجود للأسف الشديد عند الغالبية الساحقة من حركة المعارضة الحالية، لان طرح المطالب الوطنية العامة بنبرة حزبية خاصة لا يحقق الهدف المنشود، كما ان الهم الوطني العام لا يتم التعبير عنه برد فعل على قرار أو حكم محكمة دستورية مع ما يصاحب رد الفعل من اثارة واستفزاز بل ومصادرة الامة والشعب والادعاء بان طرفا يمثلهما. المطالب الوطنية للتغيير والإصلاح تحتاج استقرارا سياسيا بالدرجة الاولى مصحوبا بمناخ شعبي عام يؤمن مشاركة واسعة من كل فئات المجتمع الوطني لتحقيق هذا الهدف…
باختصار، التغيير يتم بالتوافق لا بالتصادم.
رجال الدولة لا يقودون المعارضة الى السعير الطائفي. لا يجيشون الغرائز المذهبية والقبلية. لا يطرحون أجنداتهم الخاصة عندما يتسيدون القرار التشريعي فينكبون على تعديلات دستورية بعينها بينما كانوا يثورون سابقا ويثورون الشعب كي لا يمس الدستور. رجال الدولة لا يكفرون بالحراك الشبابي إذا كان خارج أهدافهم ويؤمنون به اذا كان يخدم أهدافهم. رجال الدولة يواكبون الحراك الشبابي لان الكويت تحتاج هذه الحيوية فيلفتون نظرهم اذا كان هناك من شطط أو تطرف ويشجعونهم اذا كان هناك من عزوف أو استكانة.
كم نفتقد الى رجال الدولة في كل مؤسساتها. كم نفتقر الى هؤلاء الذين يحاورون تحت سقف الثوابت الوطنية، ويفتحون القلوب قبل الأبواب بل و«يتواطأون» مع الأضداد لمصلحة الكويت، ويتنازلون لمصلحة الكويت… ويخسرون لتربح الكويت؟
نريد رجال دولة الآن خوفا من الوصول إلى دولة بلا رجال غدا… وإلى لا دولة ولا رجال بعد غد.

جاسم بودي
المصدر جريدة الجريدة

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.