قرار مجلس الوزراء بالموافقة على مقترح وزارة المالية بزيادة نسبة الاستقطاع السنوي من الإيرادات العامة لحساب صندوق الأجيال القادمة من 10 إلى 25 في المئة، واجه مسارين متضادين من الآراء. المسار الأول أشاد واستحسن هذا القرار، بينما اتجه المسار الثاني إلى النقد والاستهجان.
من استحسن هذا القرار رأى أن زيادة معدل الادخار أمر محمود في ظل تزايد المخاطر السياسية والتقلبات الاقتصادية المحيطة بالكويت، وتوجه ضروري للحد من تحول فائض الميزانية العامة إلى الإنفاق الجاري والاستهلاكي، وهو الأمر الذي اتسمت به ميزانيات السنوات الخمس الأخيرة التي شهدت توسعاً سريعاً وقياسياً غير مسبوق في بنود الإنفاق الجاري، وخاصة الرواتب والأجور والمدفوعات التحويلية ودعم السلع والخدمات.
ويرى أصحاب هذا الرأي أن هذه الزيادة في نسبة الاستقطاع السنوي من الإيرادات العامة لحساب صندوق الأجيال القادمة تمثل تحصيناً لهذه الإيرادات من ضغوط المطالبات المستمرة بزيادة الرواتب والبدلات وإنشاء الكوادر الوظيفية، بل والدعوات غير الحصيفة لإسقاط القروض، والتوسع في الدعم السلعي والاستهلاكي.
أما من استهجن هذا القرار فقد ذهب إلى أن زيادة هذا الاستقطاع إنما تؤكد عجز الدولة عن استثمار فوائض الموازنة العامة في أصول محلية مدرة للدخل، وعجزها عن زيادة معدل الإنفاق الاستثماري المتواضع مقارنة بما يقابله من معدلات في البلدان الخليجية الأخرى أو البلدان النامية، وخاصة تلك التي تمكنت من تحقيق نمو اقتصادي باهر في العقدين السابقين من الزمن.
ولا يختلف أحد على هذا القول فلقد بلغ معدل تكوين رأس المال الثابت (أي الإنفاق على الاستثمار) خلال العقد الماضي من الزمن نحو 6 في المئة من الناتج المحلي لدولة الكويت، بينما بلغ متوسط النسبة المقارنة في دول مجلس التعاون نحو 21 في المئة، وفي جملة البلدان النامية نحو 26 في المئة خلال الفترة ذاتها.
ويشير أصحاب هذا الرأي إلى ما تعانيه شتى قطاعات الخدمات في الدولة من تراجع في جودة خدماتها وتآكل في قيمة أصولها الحقيقية وحاجتها إلى المزيد من المخصصات المالية لإعادة بنائها، ورفع مستويات أدائها إلى معدلات البلدان المتقدمة.
من الناحية الفنية البحتة لا أجد تناقضاً واضحاً بين هذين المسارين، فكلاهما محق في وجهة نظره، فالمسار المحبذ للادخار على حساب الاستهلاك لا يعارض تعزيز الإنفاق الاستثماري، ومرسوم إنشاء احتياطي الأجيال القادمة ذاته ينص على إعادة استثمار مخصصات الصندوق في فرص ومشروعات داخلية وخارجية، ولا أعتقد أن أصحاب هذا المسار هم دعاة ادخار من أجل الادخار، فالمطالبة بوقف تضخم البنود الاستهلاكية في الموازنة توازيها الدعوة إلى زيادة الإنفاق على بنود الاستثمار في البنى التحتية والأصول المدرة للدخل.
أما أصحاب المسار الثاني فلا أعتقد أنهم يرون في الحد من تضخم بنود المصروفات الجارية والاستهلاكية ما يعزز عدم جدية أجهزة الدولة في التصدي لمهامها في الجانب الاستثماري. بل على العكس من ذلك فإن وقف خيار التوسع في القرارات الشعبوية قصيرة الأثر والمتمثلة في زيادة الرواتب والبدلات والمنح والهبات، التي غالباً ما تفقد جدواها بسبب ما يتبعها من تضخم في الأسعار، سيضاعف من حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الجهاز التنفيذي في تعزيز الإنفاق الاستثماري الحقيقي والبدء بعملية إصلاح حقيقية في هيكل الاقتصاد المحلي، والتعامل بجدية مع الاختلالات والعلل التي يعاني منها.
* أستاذ الاقتصاد بجامعة الكويت
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق