“يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ” (البقرة 269).
أعتقد أن من يستمر ينصح بعض معاصريه بتطبيق العقلانية والاعتدال في حياتهم اليومية (مع أنه يعلم صعوبة تحقيق ذلك) وكأنه يحاول الزراعة في أرض لا تصلح فيها الزراعة فمن يحاول “عقلنة” أغلب ما يدور حوله ويحاول تشجيع الآخرين على اعتناق الاعتدال والوسطية في سلوكياتهم وتصرفاتهم الخاصة والعامة. ويحاول بصدق وربما عن حسن نية إيجاد تفسيرات منطقية ومعتدلة لما يجري من حوله من بعض فوضى وتخبط وهو يعرف في قرار نفسه أن الفوضوية وقلة الالتزام بالمسؤوليات والواجبات الاجتماعية تبدو هي العناوين الرئيسية لما يشاهده يومياً, أقول من يستمر يناطح ربما وحيداً جدران العناد والتحدي الشخصاني وضيق الأفق وكأنه يبذر بلا هدف ويحصد خيبة الأمل ومزيداً من الاستغراب السلبي عن بيئته المحلية. فحري بالإنسان المسالم والعقلاني والذي يحاول قدر ما يستطيع الاحتفاظ برجاحة عقله واعتداله أن يمارس تفكيره العقلاني ويطبق توجهاته المعتدلة في نطاق شخصي ضيق جداً: حياته اليومية والخاصة, بدلاً من تضييع جهده ووقته الثمين في عقلنة ما لن يتعقلن!
إضافة إلى ذلك, الإنسان العقلاني والمعتدل لا يستمر يحاول غصباً عقلنة الفوضى والعشوائية التي تجري حوله. بل ليس مطلوباً من أولي الألباب أن يستمروا في “الترقيع” لهفوات وسلوكيات وتصرفات فجة وفوضوية أملاً في أن يرجع من يمارسها إلى صوابه, بل يوجد احتمالية كبيرة في أن يتحول من يدعو للسلوكيات البناءة في مجتمعه ومن يدعو الآخرين لاعتناق طرق تفكير عقلانية ومنطقية أن يصبح ضحية مفضلة للغوغائيين والفوضويين واللاعقلانيين. على سبيل المثال, يفرح الديماغوجي بعثوره على ضحية سهلة, وما أسهل التضحية بالعقلاني والمعتدل في نظر الديماغوجي الشرير! فبدلاً من أن يصبح الشخص العقلاني والمعتدل والمواطن الحق نموذجاً مثالياً ونبراساً أخلاقياً وقدوة حسنة للآخرين, ربما سيتحول في ليلة وضحاها إلى ذبح مجاني للطائشين والمتقولين والنمامين….الخ.
الإنسان العاقل والمعتدل من يرغب فعلاً في الحفاظ على رجاحة عقله في زمن الغوغائية والأنانية عليه أن يحد من نشاطاته الإيجابية وخطاباته ومساهماته العقلانية وسلوكياته وتصرفاته المعتدلة في إطار حياته الخاصة. فعقلانية أنانية طوعية واعتدال شديد الخصوصية خير ألف مرة من التعرض للقيل والقال, والاتهامات المفبركة على ألسنة وأيادي من لا يستحقون. فلعل وعسى.
* كاتب كويتي
khaledaljenfawi@yahoo.com
المصدر جريدة القبس
قم بكتابة اول تعليق