يبدو أن الحكومة استفاقت أخيراً من سباتها العميق، وبدأت تدرك مدى الضرر الذي لحق بالميزانية العامة نتيجة سياسة المنح والعطايا المجانية بدون مقابل عبر إقرار الكوادر العبثية طيلة السنوات الثماني الماضية، والتي أوجدت خللاً كبيراً في سوق العمل بعد أن صار العمل في القطاع العام أكثر جاذبية من ذي قبل؛ بدلاً من أن يكون أقل جاذبية، وهي سياسة ستؤدي إلى كارثة مالية إن استمرت، خاصة مع زيادة أعداد المواطنين الداخلين إلى سوق العمل بشكل مطرد في السنوات القادمة.
فبسبب هذه السياسة الحمقاء التي باركها، بل حرض عليها معظم النواب وللأسف الشديد، بلغ بندا الرواتب و”الدعومات” 16 مليار دينار بعدما كانت ميزانية الدولة كلها فقط 4 مليارات قبل 12 عاما! ولكم أن تتخيلوا حجم هذا المبلغ خلال السنوات القادمة إن استمرت الحال على ما هي عليه، وهل ستكون الدولة قادرة على تقديم هذه الالتزامات في ظل اعتمادها الكلي تقريبا على مورد واحد في ظل سوق الطاقة المضطرب، وسعر برميل النفط المهدد في أي لحظة بالتكنولوجيا البديلة.
ولعل خطوة رفع الحكومة نسبة الاستقطاع من الإيرادات السنوية لمصلحة صندوق الأجيال القادمة إلى 25% هي خطوة في الاتجاه الصحيح من أجل زيادة الإنفاق الاستثماري بدلا من الاستهلاكي، لكنها يجب أن تتبع بخطوات أخرى مثل زيادة نسبة الاستقطاع تدريجيا مع إدخال سعر برميل النفط في المعادلة حتى تضطر الحكومة إلى تنويع الاقتصاد وخلق فرص عمل في القطاع الخاص، فإن أسهل الطرق لخلق فرص العمل هو تكديس العمالة في القطاع العام غير المنتج، والعكس صحيح.
لكن ما لفت نظري في تقرير وزارة المالية الأخير هو اقتراحه فرض ضريبة دخل على المواطنين، ومع اتفاقي مع مفهوم الضريبة باعتبارها أداة لخلق روح المسؤولية لدى المواطن فإنها غير قابلة للتطبيق حاليا لأنها أداة تصلح فقط للدول التي يعتمد اقتصادها على القطاع الخاص، فتقوم الدولة بتحصيل الضرائب مقابل تقديم الخدمات وتنظيم أمور الدولة وسن تشريعات تسهل بيئة الأعمال، وبالتالي زيادة إيرادات الدولة، لكن عندما تقوم الدولة بتوظيف 90% من مواطنيها كما هي الحال عندنا، فلا معنى من صرف الرواتب ومن ثم استرداد جزء منها بعد ذلك، فبدلاً من زيادة البيروقراطية بإنشاء هيئة لتحصيل الضرائب وما يصاحبها من إزعاج ومشاكل في تأدية وظيفتها، فالأولى تخفيض المعاشات بعد مسلسل الزيادات غير المبررة مع القيام بوضع دراسة شاملة لجميع وظائف الدولة ورواتبها وتطبيقها على الجميع حتى إن أدى إلى خصم رواتب بعض الوظائف على حساب أخرى.
والخطوة الثانية المطلوبة هي تخفيض حجم الحكومة مع سن تشريعات تجعل القطاع الخاص جاذبا أكثر للمواطنين، لأنه كلما كبر حجم الحكومة كبرت البيروقراطية وتشابكت المصالح، وبالتالي يكثر الفساد، ومن المستحيل الإصلاح ومحاربة الفساد في ظل هذه المعادلة الفاسدة.
أما الخطوة الثالثة فهي تخفيض الدعم الممنوح للخدمات وبالأخص في الكهرباء والماء والوقود، فالسبب الرئيسي للمبالغة في استهلاك هذه الخدمات هو رخص سعرها مع عدم الجدية في تحصيل الفواتير، وبرفع أسعارها تستطيع الحكومة تخفيض الأعباء على الميزانية وترشيد الاستهلاك أيضا.
إن هناك المزيد والمزيد من التشريعات اللازمة للنهوض بالبلد وإحداث تنمية حقيقية فيه مبنية على بناء الإنسان وليس الحجر، وبدلا من تضييع الوقت في الصراخ والتأزيم المستمر والضحك على ذقون الناس ودغدغة عواطفهم بقوانين شعبوية هدامة، فإن الأولى هو مواجهة التحديات قبل وقوع كارثة مالية لا تبقي ولا تذر.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق