جرس جديد يدقّ أبواب الكويت ونحن في البيت، كالعادة، لاهون عن التحديات الأساسية العاصفة من حوله.
بيت جارنا الإيراني اليوم يشهد حراكاً من نوع آخر. ليس غارة تشنها مقاتلات أطلسية أو إسرائيلية. ليس غزوا من جاره «العربي». ليس زلزالًا أحدثته الطبيعة… بيت جارنا يشهد بداية تململ شعبي عنوانه الاقتصاد المنهار، ويشهد خروجا الى الشوارع بانتفاضة رغيف بعدما عجز عن إكمال انتفاضة الحرية إثر الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
وبيت جارنا الإيراني ليس كمثل بيوت أخرى. ففيه مفاعل نووي أقرب الى الكويت من طهران، وفيه فائض قوة يلوّح بها تارة للتصدير وطورا للتدخل. وفيه سلاح عقائدي ديني سياسي شكل نموذجا فريدا في المنطقة فعل فعله في التركيبات السكانية والبشرية، وفيه العمق الجغرافي للخليج والبوابة الشرقية، وفيه تاريخ طويل من المصالح والتعاون، وتاريخ من التوتر والعدائية، وفيه من الثروات ما لم يستغل أو ما استغل في وجهات خاطئة… وفيه الدور الاقليمي الكبير القادر على الفعل ورد الفعل.
كان المشهد يشي أساسا بأننا واصلون الى هنا. بلد نفطي تقف فيه طوابير السيارات أمام محطات الوقود لساعات. بلد بازاره الأكبر والأقوى في المنطقة يعاني من الخواء. بلد منتجاته الطبيعية وصناعاته متقدمة لكنها لا تجد مسارب تصدير. بلد ثرواته متوافرة لكن شعبه يقول إنها لخير الآخرين أو لدعم مغامرات الآخرين. بلد يحتاج الى الاستقرار ليستفيد من موارده لكنه يواجه ثلاثة أرباع العالم ويخضع لعقوبات دولية ويطعم شعبه وشعوب الآخرين وجبات التصعيد والتهديد والوعيد.
كل ذلك يبعد عنا كيلومترات قليلة. إيران ليست لبنان أو فلسطين أو سورية أو ليبيا أو اليمن. هي دولة شبه نووية محيطة بنا. بلد كثيف السكان والمخاطر. بلد نعيش تأثيرات ونتائج أزماته بشكل قوي وربما مباشر، بلد دفعت دول خليجية ثمناً لتحالفه وصداقته مع الولايات المتحدة وحلف الأطلسي فغض العالم بصره عن احتلاله الجزر الاماراتية ودفعت دول خليجية وعربية ثمناً لعداوته مع الولايات المتحدة والعالم على الشكل الذي نراه اليوم من تدخلات مباشرة أو بالواسطة.
كيلومترات قليلة تفصلنا عن إيران لكنها في حساب الأزمات وانعكاساتها أقل من أمتار. نتمنى طبعا أن تجد الجمهورية الإسلامية حلولًا لمشاكلها الداخلية فلا تنجرف الى الفوضى اذا سقطت السلطة المركزية، ونتمنى أن تجد حلولا اقتصادية تقي الإيرانيين شر الانتفاض والهجرات الواسعة الى دول الجوار، ونتمنى أن تجد حلولا لحالة العداء المستمرة بينها وبين بعض دول الجوار والعالم بأسره من خلال التزام المواثيق والعهود وقرارات الشرعية الدولية، ونتمنى أن تتوقف سياسة تصدير الثورة بطريقة أو بأخرى لأن ما يعتبر «واجبا» أحيانا في طهران يعتبر بالتأكيد «تدخلاً في الشؤون الداخلية» خارج طهران… ونتمنى قبل ذلك كله، وبعده، أن يبتعد العم سام عما يحصل حاليا ويبعد عنا «حماقته» التي أتحفنا بها في دول أخرى ودفعت ثمنها الشعوب أكثر من الأنظمة.
نتمنى… إنما ما كل ما يتمنى المرء يدركه، لكن الواجب يفرض على جميع الكويتيين وخصوصا السلطتين التنفيذية والتشريعية والنخب السياسية، الارتقاء الى مستوى التحديات التي قد تفرضها انتفاضة الخبز الإيرانية اذا استمرت، فتحصين البيت من الخارج بدعامات وأساسات شرط لبقائه في وجه العواصف والرياح الإقليمية، وانشغال أهل البيت في الداخل بقضايا أخرى له ما يبرره في سجال الأولويات أما وإن الاقليم على شفير اشتعال فالاولوية للأسوار الحامية وللعقول الواعية وللقلوب الخائفة الحريصة على مستقبل أبنائها.
كل ما نشهده اليوم إيرانيا وعربيا يكشف كم أضاع الكويتيون فرصاً ذهبية للانكباب على تخطيط وتنفيذ مشاريع تنموية ضخمة تعبر ببلدهم الى المستقبل. تطوير الاقتصاد أساس الاستقرار الوطني والأمني والاجتماعي لكننا كنا ننشغل بإسقاط قرض هنا ومنع رجل دين من دخول البلاد هناك وكتابات على الجدران هنالك. أزماتنا كانت تكبر كلما كانت قضايانا وأفكارنا وسلوكياتنا تصغر، والمصيبة اننا نفعل ذلك في الوقت الذي لن يتكرر من حيث الرخاء والبحبوحة والمداخيل العالية بفعل ارتفاع أسعار النفط.
اليوم، يتجلى التوتر الداخلي في إيران مترافقا مع ليل سورية الطويل الذي أضاءته أمس قذائف المدفعية التركية ردا على قذائف سورية. تهديدات بالجملة باشعال المنطقة واستهداف المصالح الغربية فيها، فيما عدد الذين يعودون الى رفع الأعلام السود والأفكار السود والشعارات السود يتزايد بين ظهرانينا… إنها حالة طوارئ نعيشها ولا نشعر بها. نراها ولا نتحوط. نسمعها لكننا نرفض التخلي عن سماع أصواتنا الضاجة بكل ما هو عقيم وهامشي.
أضعنا الوقت بما يكفي، والمطلوب أن تعيد إلينا التطورات الإقليمية بعضاً من وعي مضى… كي لا يضيع ما هو أكثر من الوقت.
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق